الوعظ واللاهوت
الوعظ لغير المؤمنين، والمؤمنين، وأعضاء الكنيسة
لمن يعظ الوعَّاظ؟ لقد قرأت مؤخَّرًا عديدًا من الكتب عن الوعظ واكتشفت أنَّ هذا السؤال نادرًا ما يتمُّ تناوله. إذ يبدو أنَّ الوعَّاظ أكثر اهتمامًا بتعديل أسلوبهم.
ومع ذلك، يوجد عدد قليل من القساوسة يهتمُّون بالرعيَّة، ويميلون إلى التركيز على قسمين من الجموع: غير الكنسيِّين، وأناس ما بعد الحداثة (المتشكِّكين). قال جيمس إيمري وايت -رئيس كلِّيَّة “جوردون كونويل” وراعي كنيسة مكلنبورغ المجتمعيَّة في شارلوت بولاية كارولينا الشماليَّة- في وقت من الأوقات إنَّه يستهدف صراحةً غير المؤمنين. لقد صاغها بهذه الطريقة في مقابلة عام 1999:
مكلنبورغ هي كنيسة تستهدف الباحثين، بدأت في التركيز على الوصول إلى الأشخاص غير الكنسيِّين. من خلال مصطلح استهداف الباحثين أنا أعني بوضوح أنَّ نقاط دخول الكنيسة مصمَّمة للأشخاص غير الكنسيِّين. فبطريقة أو بشكل أو بأسلوب معيَّن يمكننا الوصول إليهم عندما يكونون في حالة البحث، أو أنَّنا نحاول مساعدتهم على أن يصبحوا باحثين نشطين. لأنَّ ليس كلُّ من هو غير كنسيٍّ يكون باحثًا.[1]
نظرًا لأنَّ الخدمة هي إحدى “نقاط الدخول”، فلقد اتَّخذ وايت من رجال مثل بيل هايبلز، وبوب راسل، وريك وارين قدوة له. فلقد فصلوا أنفسهم عن الوعَّاظ الآخرين في قدرتهم على التحدُّث إلى غير الكنسيِّين.[2]
تؤكِّد مجموعة أخرى من الكتَّاب أهمِّيَّة الوعظ لعقليَّة ما بعد الحداثة. قال القسُّ بريان ماكلارين إنَّ التفكير في كراهية أناس ما بعد الحداثة لحبِّ الظهور والتحليل التفصيليِّ جنبًا إلى جنب مع ميلهم إلى الأصالة والسرد القصصيِّ بدأ يؤثِّر على وعظه في عام 2001. الآن، السرد القصصيُّ والأصالة هما مركزان في وعظه.[3]
هذان المثالان يجعلان البعض منَّا متوتِّرًا. عندما يذهب الواعظ بعيدًا في التكيُّف مع الموعوظين، تصبح الرسالة نفسها معرَّضة للخطر، كما كان الحال في كلٍّ من الكنائس التي تستهدف الباحثين والكنائس الناشئة. ومع ذلك، فإنَّ الوعَّاظ يعظون أناسًا حقيقيِّين، وأناسًا غير كنسيِّين، وأناسَ ما بعد الحداثة، وكلَّ شيء آخر قد نفكِّر فيه. يكمن التحدِّي في التفكير في جميع أنواع الأشخاص الجالسين بين الجمع. تحاول هذه المقالة القيام بذلك بكلِّ تواضع.
أقترح أن يقوم القساوسة بالوعظ مع وضع ثلاثة أنواع من الناس في الاعتبار.
عظوا غير المجدَّدين
من الجيِّد دائمًا أن تقرَّ بوجود غير المؤمنين في خدمة صباح الأحد، حتَّى لو كانت كنيستك صغيرة ولم يكن غير المؤمنين موجودين. كنيستي ليست كبيرة، لكنِّي ما زلت أفترض أنَّ بعض الجالسين في المقاعد لم يعرفوا المسيح. فبعضهم مسيحيُّون اسميُّون قد يكونون قد زعموا قبولهم للمسيح وظلُّوا في الكنائس لسنوات، لكنَّهم ما زالوا بحاجة إلى الولادة الجديدة لتحقيق الحياة الحقيقيَّة. والبعض الآخر غير مؤمنين قد دعاهم أعضاؤنا إلى الحضور. ولا يزال آخرون يدخلون الكنيسة من الشارع تجاوبًا مع بطاقة الكنيسة أو النشرة أو الموقع الإلكترونيِّ أو المبنى نفسه. بعبارة أخرى، سيأتي غير المؤمنين.
ثمَّ ماذا؟
اجعلوا رسالة الإنجيل واضحة
تقع مسؤوليَّة توضيح الإنجيل على عاتق الواعظ بينما يكشف عن كلمة الله. كتب بولس:
لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ. (رومية 10: 9-10)
فنحن، بعد كلِّ شيء، خدَّام الإنجيل. ليس من الضروريِّ أن يبدو الإنجيل كما هو في كلِّ عظة. ولكن مهما كانت طريقة شرحه، يجب على القسِّ أن يسأل عن المقطع الكتابيِّ “كيف يشير إلى رسالة الإنجيل؟” حتَّى غير المؤمنين يمكنهم التعرُّف على الفرق بين العظة التي تتمحور حول الإنجيل وبين عظة تعرج على الإنجيل في النهاية.
تقع كنيستي بالقرب من مدرسة لاهوتيَّة، ولدينا الكثير من الرجال الذين يتدرَّبون ليكونوا رعاة، والذين يتساءلون في كثير من الأحيان “هل يجب أن توجَد رسالة الإنجيل في كلِّ عظة؟” والجواب هو “نعم” وذلك لسببين على الأقلِّ. أوَّلاً، لأنَّ رسالة الإنجيل تعطي معنًى لكلِّ نصٍّ كتابيٍّ من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. ثانيًا، لأنَّ غير المتجدِّدين يحتاجون إلى معرفة ما يعنيه “أن تعترف بفمك أنَّ يسوع هو الربُّ وأن تؤمن بقلبك أنَّ الله أقامه من بين الأموات”. (كذلك يحتاج المؤمنون إلى سماع ذلك مرارًا وتكرارًا من أجل النموِّ في الإيمان!) حتَّى لو سمع غير المؤمن رسالة الإنجيل عشرات المرَّات، فلقد أحضره الله (أو أحضرها) اليوم ليسمعني أعظ. لذلك أريد أن يتحدَّى الإنجيل مرَّة أخرى فهمه أو فهمها للعالم والخطيَّة والخلاص.
إنَّ توضيح الإنجيل هو أحد أهمِّ الأشياء التي يمكنني القيام بها بصفتي قسًّا.
الوعظ التفسيريُّ
إنَّ الرعاة الحسَّاسين لوجود غير المؤمنين سوف يخدمونهم بشكل أفضل من خلال الوعظ التفسيريِّ. يريد غير المؤمنين أن يعرفوا لماذا نؤمن بما نؤمن به. وبما أنَّ عقيدتنا وحياتنا مبنيَّة على كلمة الله، فإنَّنا نخدم غير الكنسيِّين بشكل أفضل من خلال توجيههم بأمانة وإخلاص ووضوح إلى الكتاب المقدَّس، تمامًا كما نفعل مع المؤمنين.
توجد حركة من الكتَّاب وقادة الكنيسة اليوم والتي تقول إنَّ عقل ما بعد الحداثة -المتديِّن وغير المتحرِّك- يستجيب بشكل أفضل “للوعظ السرديِّ”. ويجادلون بأنَّ الناس يريدون القصص. حسنًا، أنا أحبُّ القصص. يجب أن يقدِّم الوعظ التفسيريُّ قصَّة الكتاب المقدَّس لغير الكنسيِّين، والتي بدورها تقدِّم قصَّة عمل الله مع البشريَّة، والتي بدورها تقدِّم قصَّة لحياتهم الخاصَّة. لا ينبغي على القساوسة أن يعملوا فقط من خلال المقطع الكتابيِّ كلِّه عندما يعظون تفسيريًّا، بل يجب أن يفعلوا ذلك بعقليَّة إعطاء مستمعيهم “صورة الله الكبيرة”. هذا هو الوعظ الودود للباحثين![4]
تقول نفس الحركة إنَّ عقل ما بعد الحداثة يقدِّر الأصالة. حسنًا، أنا أيضًا أحبُّ الأصالة. إنَّه سبب مثاليٌّ لكي تعظ تفسيريًّا. دعنا نركِّز بشكل أقلَّ على التغليف، وبشكل أكبر على الرسالة: ماذا قال يسوع؟ ما الذي تنبَّأ به إشعياء؟ ماذا كتب بولس؟ وما علاقة الإجابات عن هذه الأسئلة بنا اليوم؟ هذا ما يريده غير المتجدِّدين الذين يظهرون في كنائسنا – إنَّهم يريدون الحقيقة الكتابيَّة البسيطة المجرَّدة. وسواء وافقوا أخيرًا على هذه الحقيقة أم لا فإنَّ هذا بينهم وبين الله؛ لكن ما نعظ به ليس متاحًا للانتزاع.[5]
مدُّوا يد العون لغير المتجدِّدين
يوجد عدد من الأشياء التي يمكننا القيام بها لجعل عظاتنا كرازيَّة. إنَّ تحديد الأعداد الكبيرة والصغيرة كتقسيمات الإصحاحات والآيات مفيد لغير المتجدِّدين. كذلك إخبارهم بأن يستفيدوا من جدول محتويات الكتاب المقدَّس. يا لها من كلمة تشجيع للزائر غير المتجدِّد عندما يبدو أنَّ كلَّ من حوله يجدون سفر عوبيديا بسرعة!
تساعد مقدِّمات العظة الاستفزازيَّة أيضًا في بناء جسر لغير المومنين من خلال شرح أهمِّيَّة النصِّ الذي على وشك الكشف عنه. على سبيل المثال، وعظتُ في آخر عيد قيامة من لوقا 5: 33-39، حيث أصيب الفرِّيسيُّون بالذهول لأنَّ تلاميذ يسوع لا يصومون. أجابهم يسوع بملاحظة أنَّ ضيوف الزفاف لا يصومون عندما يكون العريس حاضرًا، ثمَّ يروي المثل عن وضع نبيذ جديد في زقاق قديمة. ولقد وضعت عنوانًا لعظتي: “هل المؤمنون هم الأسعد؟” كانت هذه المقدِّمة فرصة لتوضيح أنَّ الفرح الحقيقيَّ والدائم والمغيِّر للحياة هو وجود العريس القائم من بين الأموات، يسوع المسيح. هل ساعدت المقدِّمة المؤمنين؟ أتمنَّى ذلك، لكنَّني رأيت هاتين الدقيقتين أو الثلاث فرصة خاصَّة للتواصل مع غير المتجدِّدين الذين قد يحتاجون إلى بعض التوجيه الإضافيِّ لمعرفة سبب اجتماعنا حول كلمة الله.
كلُّ هذه الممارسات “الصغيرة” لها تأثير تراكميٌّ على رعيَّة الكنيسة أيضًا. عندما يدرك المؤمنون أنَّ المنبر ودود مع غير المتجدِّدين، فمن المرجَّح أن يحضروا أصدقاءهم غير المؤمنين. إنَّه شيء خاطئ أن تعتقد أنَّ التمركز حول الإنجيل يعني أنَّه لا يمكن للمرء أن يكون حسَّاسًا للباحثين.
عظوا المتجدِّدين
على الرغم من أهمِّيَّة الوعظ لغير المتجدِّدين، فإنَّ مهمَّة الواعظ الأساسيَّة في يوم الربِّ هي استهداف المؤمنين. فعلى الوعظ أن يبني الكنيسة المحلِّيَّة. وعلى الكنيسة أن تستمع وهي مستعدَّة وراغبة في الخضوع للمسيح كرئيس للكنيسة. فهؤلاء هم “مستمعونا” الأساسيُّون. لذلك عندما أُعدُّ العظة الخاصَّة بي، أضع المؤمنين المتجدِّدين في ذهني بشكل أساسيٍّ.
فكيف إذًا يجب على الواعظ أن يخاطب المؤمن؟
وبِّخ وقوِّم المؤمنين
نحن نعلم من يوحنَّا أنَّ الخطيَّة ما زالت قائمة في حياة المؤمن: “إِنْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِبًا، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا.” (1 يوحنَّا 1: 10). هناك القليل من الوخز في هذه الآية، كما لو أنَّ يوحنَّا كان يعلم أنَّ المؤمنين سيتمُّ إغراؤهم التقليل من خطاياهم وتضخيم قداستهم وإنكار الربِّ. علاوةً على ذلك، كتب بولس: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ” (2 تيموثاوس 3: 16). وهكذا، عندما يعظ الراعي للمؤمنين، فإنَّ حقَّ كلمة الله سوف يوبِّخهم ويقوِّمهم بكلِّ تأكيد.
لا يريد أيُّ قسٍّ أن يُعرف عنه أنَّه يُنقص أو يُقلِّل من المؤمنين. ومع ذلك، فإنَّ الأمانة للكتاب المقدَّس تتطلَّب من الرجل أن يوبِّخ في الوقت اللازم. هذا هو أحد أسباب عدم الاستخفاف في قبول الدعوة للوعظ. ولكي نكون أمناء في هذه المهمَّة علينا أن نسأل في كلِّ نصٍّ كتابيٍّ نعظ منه عن: “كيف يوبِّخ هذا المقطع أو يتحدَّى المؤمن؟” هل هو يتحدَّي انقطاع الصلوات، النميمة، عبادة الأوثان؟ يمكن استخلاص الإجابة من الجماعة المحلِّيَّة للقسِّيس أو ممَّا ينطبق على جميع المؤمنين. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن أن يكون الوعظ الذي من دون توبيخ أو تقويم وعظًا كتابيًّا كاملاً.
دعم وتشجيع الؤمنين
ممَّا يدعو إلى الشكر أنَّ الوعظ للمؤمنين يعني أكثر من التوبيخ والتقويم. إنَّه يعني العمل على دعم وتشجيع المؤمنين بكلمة الله. فالمؤمن يعتمد كلِّيًّا على كلمة الله. كما قال يسوع: “لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ” (متَّى 4: 4؛ تثنية 8: 3). هذا يعني أنَّه عندما يأتي المؤمن ليستمع إلى العظة، فإنَّه يأتي ليتغذَّى بكلمات الحياة.
بالطبع يمكن أن يتغذَّى المؤمن بكلمة الله في أوقات أخرى من الأسبوع، لكنَّ الوعظ يلعب دورًا مركزيًّا في تغذيته. تأمَّل (تيطس 1: 1-3) حيث يصف بولس كيف تظهر الحياة الأبديَّة في كلمة الله من خلال الكرازة. يتغذَّى المؤمنون ويقتاتون من العظات. السؤال الذي يجب طرحه في كلِّ نصٍّ هو “كيف يغذِّي هذا النصُّ، أو يدعم، أو يشجِّع المؤمن؟”
توجد أشياء في خدمتي الوعظيَّة تشجِّعني بطريقة كبيرة: أن تكون الكنيسة مجتمعة لأنَّهم يحتاجون إلى الحياة المعطاة من خلال الكلمة الموعوظة، وليس لأنَّهم بحاجة إليَّ! هذه ببساطة هي المهمَّة التي كلَّفوني بتقديمها، الوجبة الروحيَّة التي فوَّضوني لإعدادها. يا له من امتياز أن يستخدمك الربُّ لكي تدعم شعبه وتغذِّيهم وتبنيهم وتهذِّبهم بكلمته!
تقديس وتقوية المؤمنين
صلَّى الابن (يسوع) لكي يتقدَّس أبناء الآب ويصبحوا مشابهين للمسيح. عرف يسوع أنَّ أتباعه سيتحمَّلون كلَّ أنواع المعاناة والازدراء لأنَّهم قبلوا كلمته (يوحنَّا 17: 14)، لكنَّه لم يصلِّ أن يتمَّ إبعادهم عن العالم. بل صلَّى أن يتقدَّسوا. كيف يصبح المؤمنون أكثر قداسة؟ صلَّى يسوع “قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ.” (يوحنَّا 17: 17). ستقدِّس رسالة الله أبناء الله. يصبح المؤمنون قدِّيسين بإدراك وتطبيق الأخبار السارَّة وكلِّ الكتاب المقدَّس في حياتهم (راجع 2 تيموثاوس 3: 17). إنَّ كلمة مقدَّسة تطلق شعبًا مقدَّسًا.
بالطبع، يُعَدُّ التقديس عمل الله في الأساس. فهو من يعمل في حياة المؤمن (فيلبِّي 2: 13؛ عبرانيِّين 13: 20-21) وهو من يضمن للمؤمنين كلَّ ما يحتاجون إليه ليجلبوا له المجد والكرامة. هذا بالضبط ما يحدث عندما يجتذب الله القدِّيسين لكي يجتمعوا ويسمعوا حقائق كلمته. وليس من المستغرب أن يتمَّ تحريضهم “عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ” (عبرانيِّين 10: 24).
يمتلك الوعَّاظ فرصًا مجيدة لكي يستخدموها في حياة الخطاة لتقويتهم للقيام بمهمَّة السير في الحياة المسيحيَّة. يقول مزمور 1 إنَّ الرجل المبارك الذي يُسَرُّ بشريعة الله يشبه شجرة مغروسة بجوار جداول المياه، شجرة مثمرة وقويَّة. ليس من الصعب فهم هذا القياس. فالمؤمن مثمر وقويٌّ عندما يتغذَّى ويُسَرُّ بشريعة الربِّ. وتلعب العظات دورًا في قيادة المؤمن للتأمُّل في شريعة الله. على الرغم من أنَّ الواعظ لا يستطيع أن يصنع رجالاً مباركين (ونشكر الله أنَّ ذلك يعود إلى الله وإلى روحه!)، فإنَّه نال امتيازًا عظيمًا لإطعام شعب الله بكلمة الله. يمكن للواعظ أن يكون مثل تلك الجداول المائيَّة، إذ ينقل كلمة الله بأمانة ويقوِّي تلك الشجرة أسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام.
على عكس المحاسب الذي يرى رصيد الميزانيَّة في نهاية الشهر، أو المدير التنفيذيُّ الذي يراقب نموَّ الشركة، فمن يعرف ما إذا كان الواعظ سيرى الثمرة التي ولدت، والحياة التي تغيَّرت، والقلوب التي لُمِسَت! فلا يمكن قياس أفضل عمل للراعي في هذا الجانب من السماء. فمثل هذه الثمار لا يمكن جمعها في سلال. ومع ذلك، فإنَّ الثمار موجودة. إنَّ كلمة الله الموعوظة، بنعمته، تقدِّس الخاطئ وتقوِّيه، وتجهِّزه لأعمال النعمة الخاصَّة به.
تحدِّي ونموُّ المؤمنين
يحتاج التلاميذ إلى النموِّ في فهم وتفسير الكتاب المقدَّس. إنَّهم يميلون إلى أن يكونوا مهملين للغاية في استيعابهم للعظات، على عكس أهل بيريَّة المذكورين في أعمال الرسل 17 الذين فحصوا ما سمعوه ليروا ما إذا كان صحيحًا. سوف يتحدَّى الوعظ التفسيريُّ القويُّ التلميذ من خلال إعطائه شيئًا يفكِّر فيه ويفحصه. قال جيمس و. ألكساندر ذات مرَّة، منتقدًا الوعظ السطحيَّ:
نجد في هذه العظات عديدًا من الحقائق الكتابيَّة القيِّمة، وعديدًا من التوضيحات الأصليَّة والمؤثِّرة، وكثيرًا من الحجج السليمة، والنصائح القويَّة، والمساندة الرائعة. وكونهم يعتبرون أنفسهم ويُنظر إليهم على أنَّهم واعظو منبر، فإنَّهم بالكاد يقبلون اعتراضًا واحدًا؛ ومع ذلك فإنَّ هذه العظات كتفسير للكتاب المقدَّس، هي حرفيًّا لا شيء. فهم لا يزيلون أيَّ صعوبات في حجج كتبة الوحي المقدَّس؛ ولا يعطون نظرة واسعة للمجال الذي يناقشونه؛ ويمكن أن يكرِّروا أنفسهم مدى الحياة دون أن يميلوا ولو بدرجة طفيفة إلى تعليم المستمعين عادات التفسير المحكم.[6]
إنَّ العظات التي تتحدَّى وتنمِّى المؤمنين لا يجب أن تكون عنيفة أو صعبة الفهم (فمثل هذه العظات ستكون غير أمينة وبلا هدف على أيِّ حال!). ومع ذلك، فإنَّ العظات التي تتحدَّى وتنمِّي المؤمنين هي عظات تقال بواسطة رجال منسكبين على النصِّ. لا يحتاج غالبًا القسُّ الذي يعطي وقته لتحضير العظة أن يتساءل: “كيف يتحدَّى هذا المقطع المسيحيُّ أو ينمِّيه؟” – إنَّ كلمة الله موجَّهة لتحقيق قصد الله لها (إشعياء 54: 10-11). فجهوده ستؤتي ثمرها إذ سيجني المستمعون مكافأة اجتهاده.
إنَّنا نسعى جاهدين في كنيستي أن نكون أمناء للكتاب المقدَّس سواء كنَّا نعظ بضع آيات أو سفرًا كاملاً في بضع عظات، كما فعلت مؤخَّرًا مع سفر أيُّوب. ولأوَّل مرَّة منذ سنوات، ينضمُّ طلاَّب الجامعات إلى الكنيسة لأنَّ الوعظ يتحدَّاهم لينموا. ولقد أخبرني زوجان أكبر سنًّا مؤخَّرًا أنَّهما يحبَّان المجيء إلى الكنيسة لأنَّهما صارا قادرين على إجراء مناقشات روحيَّة عن العظة على الغذاء. لا أعتقد أنَّ أيَّ شخص سيقول إنَّنا نقوم بعمل رائع في التواصل مع العالم، ولن يقول أحد إنَّ وعظي حماسيٌّ. يوجد مجال كبير للنموِّ. لكنَّنا بنعمة الله نفتح كلمة الله – وهذا أمر مثير ويغيِّر الحياة!
يبحث المؤمنون عن الوعظ الأمين للكتاب المقدَّس، أي الوعظ الذي يشمل التوبيخ والتقويم والدعم والتشجيع والتقديس والتقوية والتحدِّي والنموَّ.
الآن بعد أن غطَّينا الوعظ لغير المؤمنين والمؤمنين، قد يبدو هذا مكانًا طبيعيًّا للتوقُّف. لكن يجب على الوعَّاظ أن يكونوا حسَّاسين لفئة أخرى: أعضاء الكنيسة.
الوعظ لأعضاء الكنيسة كجسد متَّحد
في معظم الكنائس، يشتمل الجزء الأكبر من العابدين على الرجال والنساء الذين التزموا بهذا المكان وتلك الخدمة وببعضهم البعض. هل يهمُّ هذا بينما تعظ؟ أعتقد ذلك.
وصف بولس جماعة القدِّيسين في كولوسي بأنَّهم “مُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِرًا وَمُقْتَرِنًا يَنْمُو نُمُوًّا مِنَ اللهِ” (كولوسي 2: 19). لم يكن هؤلاء مجرَّد تلاميذ، بل كانوا تلاميذ متجذِّرين في كنيسة كولوسي وينمون نموًّا من الله. في (كولوسي 3: 15-16) تابع بولس “وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ. لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ”. لاحظ أنَّ بولس خاطب هذه الكنيسة المحلِّيَّة كجسد واحد وذكَّرهم بأنَّهم سوف يتَّحدون بكلمة المسيح. سيحدث هذا عندما يجتمعون معًا لترنيم الكتاب المقدَّس وسماع الكتاب المقدَّس يُوعظ.
لا يخاطب بولس الأشخاص المؤمنين هنا بوصفهم مؤمنين فرديِّين ولكن كأعضاء في كنيسة معيَّنة. فلقد جلب تجمُّعهم الوحدة، ليس لأنَّهم كانوا قريبين جغرافيًّا، ولكن لأنَّ كلمة المسيح جاءت لتحلَّ فيهم لأنَّهم يتشاركون في نفس التعليم ونفس التحذير. لقد خضعوا لنفس السلطة لأنَّهم اعترفوا بالمسيح بأنَّه رأسهم.
وينطبق الشيء نفسه على الكنيسة المحلِّيَّة اليوم، وإحدى وسائل تحقيق الوحدة للأعضاء هي الوعظ بكلمة الله. أوضحَ جون كالفن هذه النقطة عندما وصف دور الواعظ. الواعظ هو الذي يجلب الوحدة للجسد. وفي تعليقه على الرجاء الواحد للكنيسة، والربِّ الواحد، والإيمان الواحد، والمعموديَّة الواحدة في أفسس 4، كتب كالفن:
بهذه الكلمات يُظهر بولس أنَّ خدمة البشر التي يستخدمها الله ليأمر الكنيسة هي رباط حيويٌّ لتوحيد المؤمنين في جسد واحد… إنَّ الطريقة التي يعمل بها [الله] هي كالتالي: يوزِّع مواهبه على الكنيسة من خلال خدَّامه، وهكذا يظهر نفسه ليكون حاضرًا هناك، من خلال سكب طاقة روحه، وهو يمنعها من أن تصبح بلا جدوى وبلا ثمر. بهذه الطريقة يتجدَّد القدِّيسون ويُبنى جسد المسيح. وبهذه الطريقة نكبر في كلِّ شيء لله الذي هو الرأس ونرتبط ببعضنا البعض. وبهذه الطريقة نأتي كلُّنا إلى وحدة المسيح، وطالما ازدهرت النبوَّة فإنَّنا نرحِّب بخدَّامه ولا نستهين بعقيدته. وكلُّ من يحاول التخلُّص من هذا النمط من النظام الكنسيِّ أو يحتقره بالتقليل من أهمِّيَّته، فهو يخطِّط لإفساد الكنيسة.[7]
لماذا نجعل الكثير من أعضاء الكنيسة مثل الجسد المتَّحد في حين أنَّ العديد من الكنائس تنمو عن طريق الكثير من غير الأعضاء؟ لأنَّ الكتاب المقدَّس يخلق الكثير من هؤلاء الأفراد الذين هم جزء من الكنيسة المحلِّيَّة، كما نرى من رسائل العهد الجديد. كانت المسيحيَّة تُعاش في سياق أشخاص من خلفيَّات مختلفة يتشاركون الإنجيل – كانت تلك هي الكنيسة. وكان لهذا آثار جذريَّة. كما كتب بولس “فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ.” (1 كورنثوس 12: 26). إنَّها جماعة يشمِّر من فيها عن سواعدهم ويتشاركون في حياة بعضهم البعض.
يجب أن يخاطب الوعظ الكتابيُّ المؤمنين بانتظام ليس فقط كأفراد، ولكن كأشخاص ملتزمين ببعضهم البعض كجسد محلِّيٍّ محدَّد. ففي كلِّ نصٍّ تسأل: “كيف ينطبق هذا المقطع على حياتنا كمجتمع إيمان؟” قد يبدو من الغريب مخاطبة أعضاء الكنيسة فقط، لكن يا لها من رؤية جذَّابة للكنيسة لكلٍّ من غير الكنسيِّين ولأولئك المؤمنين الذين يختارون التقرُّب من الكنيسة بدلاً من الالتزام الفعليِّ بها! فيُظهر القسُّ تقديره لهؤلاء المؤمنين الذين انضمُّوا إلى الكنيسة، والأهمُّ من ذلك، أنَّه يُظهر محبَّته لكلمة الله التي وحَّدت أعضاء كنيسته عندما يخاطبهم مباشرةً في الوعظ.
الخلاصة
في أثناء تأمُّلي في السؤال، “لمن يعظ الواعظ؟”، ترنُّ في أذني كلمات بيتر آدم، قسِّيس كنيسة سانت جود، كارلتون – أستراليا، الذي كتب “إن كنَّا خدَّام الله والمسيح، وخدَّام كلمته، فإنَّ دعوة الواعظ تصير أن يكون أيضًا خادمًا لشعب الله”.[8] نعم، أعتقد أنَّ الواعظ يجب أن يكون حسَّاسًا لغير الكنسيِّين. ولكن إن استهدفنا غير الكنسيِّين فقط، فقد تضيع الرسالة أو تضعف لدرجة أن يصاب شعب الله بسوء التغذية. وهذا ليس مشهدًا جميلاً. فمن المهمِّ أن نكرز لمن لا ينتمون إلى الكنيسة، ولكنَّ الأهمَّ من ذلك هو التركيز بشكل أساسيٍّ على المؤمنين وتذكُّر قيمة التحدُّث بانتظام إلى أولئك المؤمنين الذين التزموا بالكنيسة المحلِّيَّة.
[1] “Preaching to the Unchurched: An Interview with James Emery White” in Preaching with Power: Dynamic Insights from Twenty Top Communicators, ed. Michael Duduit (Grand Rapids, MI: Baker Books, 2006), 227.
[2] المرجع السابق، 230.
[3] “Preaching to Postmoderns: An Interview with Brian McLaren” in Preaching with Power: Dynamic Insights from Twenty Top Communicators, ed. Michael Duduit (Grand Rapids, MI: Baker Books, 2006), 126-27.
[4] من أجل المساعدة في تفسير حبكة هذه القصَّة، سيجد الوعَّاظ التفسيريُّون أنَّ هذه الكتب الصغيرة مفيدة:
The Symphony of Scripture: Making Sense of the Bible’s Many Themes (1990) by Mark Strom; God’s Big Picture: Tracing the Storyline of the Bible (2002) by Vaughan Roberts; and gospel and Kingdom now available in The Goldsworthy Trilogy (2000).
يمكن أن تساعد هذه الكتابات التمهيديَّة في علم اللاهوت الكتابيِّ على توصيل وحدة الكتاب المقدَّس عند الوعظ من خلال الكتاب المقدَّس.
[5] انظر فصل مارك ديفر عن الوعظ التفسيريِّ في كتاب “تسع علامات للكنيسة الصحيحة” (الحق يحرركم).
[6] J.W. Alexander, Thoughts on Preaching (Carlisle, PA: Banner of Truth, Date), 239.
[7] John Calvin, The Institutes of the Christian Religion, ed. Toney Lane and Hilary Osborne (Grand Rapids, MI: Baker Book House, 1986), 245.
[8] Peter Adam, Speaking God’s Words: A Practical Theology of Expository Preaching (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1996), 130.