العيش معًا

الكنيسة: العامَّة والمحلِّيَّة

مقالة
11.30.2022

تعريف

الكنيسة العامَّة هي جماعة سماويَّة وأُخرويَّة تتكوَّن من جميع –مَن في الماضي والحاضر والمستقبل- الذين ينتمون إلى عهد المسيح الجديد وملكوته. والكنيسة المحلِّيَّة هي مجموعة ثابتة، مشتركة، من أعضاء العهد الجديد ومواطني الملكوت، ويتمُّ تحديدهم من خلال اجتماعهم المنتظم معًا باسم يسوع من خلال الوعظ بالإنجيل وممارسة الفرائض.

ملخَّص

إنَّ الكلمة المُترجَمة “كنيسة” في العهد الجديد هي كلمة “إكليسيا” (ekklesia)، والتي تعني جماعة. والعهد الجديد يصوِّر نوعين من الجماعات: واحدة في السماء، وعديد على الأرض. هذان النوعان هما الكنيسة العامَّة والكنيسة المحلِّيَّة على التوالي. أن تصبح مؤمنًا يعني أن تصبح عضوًا في الكنيسة العامَّة، حيث يرفعنا الله مع المسيح ويجلسنا في السماويَّات. ومع ذلك، يجب أن “تظهر” عضويَّة الجماعة السماويَّة على الأرض، وهو ما يفعله المؤمنون من خلال الاجتماع معًا باسم المسيح من خلال الوعظ بالإنجيل، والإقرار المشترك، وممارسة الفرائض. بعبارة أخرى، تخلق الكنيسة العامَّة السماويَّة كنائس محلِّيَّة أرضيَّة، والتي بدورها تُظهر الكنيسة العامَّة. ولقد شدَّد المسيحيُّون أحيانًا عبر التاريخ على الكنيسة المحلِّيَّة أو الكنيسة العامَّة، ومن خلال ذلك أهملوا الأخرى. لكنَّ الموقف الكتابيَّ يؤكِّد كليهما. مثل هذا الموقف يستلزم متابعة التلمذة الفرديَّة للفرد في كنيسة محلِّيَّة، لكن على الكنيسة المحلِّيَّة أن تشارك الكنائس الأخرى.

استخدامان لكلمة “الكنيسة”

ما هي الكنيسة بالضبط؟ قد يجد المؤمن الحديث في الإيمان الذي يبدأ في قراءة الكتاب المقدَّس نفسه مرتبكًا في البداية عندما يحاول الإجابة عن هذا السؤال. في إحدى الصفحات، يقول يسوع إنَّه سيبني كنيسته، وإنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها (متَّى 16: 18). يفكِّر المؤمن الحديث في كيفيَّة استخدام يسوع لكلمة “كنيسة” هنا ويستنتج عن حقٍّ أنَّه ينوي أن تكون الكنيسة شيئًا واسعًا، تتألَّف من أعداد كبيرة من الأعضاء من جميع أنحاء العالم وعلى مدى قرون من الزمن. ثمَّ بعد بضع صفحات، يتواجه المؤمن الحديث مع يسوع وهو يخبر تلاميذه أنَّه عليهم معالجة الخطيَّة غير المُتاب عنها عن طريق إخبار “الكنيسة” (متَّى 18: 17). وهنا يتساءل إن لم تكن الكنيسة في الواقع مجموعة معيَّنة من الناس في مكان واحد.

إنَّ الانتقال إلى رسائل بولس يكشف بنفس الطريقة عن استخدامين مختلفين لهذه الكلمة. فتارةً يتحدَّث بولس عن “الالتقاء معًا ككنيسة”، وكأنَّها جماعة (1 كورنثوس 11: 18). ثمَّ يكتب بعدها: “فَوَضَعَ اللهُ أُنَاسًا فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلًا رُسُلًا، ثَانِيًا أَنْبِيَاءَ، ثَالِثًا مُعَلِّمِينَ”، كما لو أنَّ الأمر أكبر من ذلك بكثير (1 كورنثوس 12: 28).

وبالطبع ما يكتشفه المؤمن الحديث هو كيفيَّة استخدام الكتاب المقدَّس لكلمة “كنيسة” بالمعنى العامِّ والمعنى المحلِّيِّ.

في أبسط المستويات المعجميَّة، فإنَّ الكلمة اليونانيَّة ekklesia، والتي تترجمها على أنَّها “كنيسة”، تعنى جماعة. ومع ذلك، يستخدم الكتاب المقدَّس الكلمة للإشارة إلى نوعين من الجماعات: جماعة سماويَّة وأخرى أرضيَّة. يشير المسيحيُّون إلى الأولى على أنَّها الكنيسة العامَّة والأخرى هي الكنيسة المحلِّيَّة.

الكنيسة العامَّة – جماعة سماويَّة

يجب أن تأتي الكنيسة العامَّة أوَّلاً في تفكيرنا لأنَّ الناس “ينضمُّون” إلى الكنيسة العامَّة أو الجماعة السماويَّة بمجرَّد أن يصبحوا مؤمنين.

ففي النهاية، الخلاص هو عهد. وبموجب العهد الجديد، لم يضمن يسوع المسيح لنفسه أفرادًا فقط بل شعبًا، وقد أتمَّ ذلك من خلال حياته وموته وقيامته. ومن خلال توحيده لهذا الشعب مع نفسه، فإنَّه يوحِّدهم أيضًا مع بعضهم البعض. استمع إلى ما قاله الرسول بطرس:

الَّذِينَ قَبْلًا لَمْ تَكُونُوا شَعْبًا، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ.
الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ. (1 بطرس2: 10؛ انظر أيضًا أفسس 2: 1-21)

يضع بطرس السطر الثاني عن قبول رحمة الله المخلِّصة بالتزامن مع السطر الأوَّل عن أن نصبح شعب الله. الأمران حدثا معًا.

من المناسب أن يكون التبنِّي أحد الاستعارات المهمَّة لخلاصنا (رومية 8: 15؛ غلاطيَّة 4: 5؛ أفسس 1: 5). أن يتمَّ التبنِّي من قبل أب وأمٍّ يعني الحصول على مجموعة جديدة من الإخوة والأخوات -بشكل مشتقٍّ ولكن متزامن. وهذه هي الكنيسة العامَّة -جميع الإخوة والأخوات الجدد الذين حصلنا عليهم عبر الأزمان ومن جميع أنحاء العالم، الذين ينتمون إلى شعب العهد الجديد.

فلماذا إذًا نقول إنَّ الكنيسة العامَّة هي في السماء؟ يقول بولس إنَّنا عندما خلُصنا بالنعمة فإنَّ الله “أَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (أفسس 2: 6؛ انظر أيضًا كولوسي 3: 1، 3). فباتِّحادنا مع المسيح نجلس معه في السماء، وهذا يعني أنَّنا نمتلك مكانةً ومكانًا في قاعة عرش الله السماويَّة. كلُّ الامتيازات والحماية التي لذلك المكان هي ملك لنا لأنَّنا أبناء وبنات الملك. نحن هناك. ومع ذلك، يتابع بولس: نحن لم نتصالح رأسيًّا فقط بكون الله أقامنا وأجلسنا في السماويَّات. لكن يتبع هذا مصالحة أفقيَّة: “وَلكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ” (2: 13، 14). ممَّا يعني: إن كنت جالسًا مع المسيح في السماويَّات، فأنت أيضًا جالس مع أيِّ شخص آخر جالس هناك. هذه هي الجماعة السماويَّة، أو الكنيسة العامَّة، التي يواصل بولس مناقشتها في الأصحاحات التالية (3: 10، 21؛ 5: 23-32).

يسلِّط كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين الضوء على المكان السماويِّ لهذه الجماعة بشكل أكثر وضوحًا لمن يخاطبهم من المؤمنين:

بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى … أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ … وَكَنِيسَةُ [ekklesia] أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ. (عبرانيِّين 12: 22-24)

مرَّة أخرى، كيف يمكن للقدِّيسين الذين على الأرض أن يجتمعوا الآن في السماء؟ أمام كرسيِّ دينونة الله. فلقد أُعلِنوا أبرارًا من خلال العهد الجديد للمسيح. ففي السماء يحسب الله جميع القدِّيسين، الأحياء والأموات، على أنَّهم يتحلَّون بتلك المكانة.

علاوةً على ذلك، تتوقَّع هذه الجماعة السماويَّة اجتماع جميع القدِّيسين الذين عاشوا على مرِّ الزمن في نهاية الأيَّام حول عرش الله –وهذا ما يسمِّيه الرسول يوحنَّا “جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ” (رؤيا 7: 9). لهذا السبب، يشير اللاهوتيُّون إلى الكنيسة العامَّة على أنَّها ليست مجرَّد تجمُّع سماويٍّ، بل جماعة أُخرويَّة (في نهاية الزمان).

التعريف 1: الكنيسة العامَّة هي جماعة سماويَّة وأخرويَّة تتكوَّن من كلِّ شخص -في الماضي والحاضر والمستقبل- ينتمي إلى العهد الجديد للمسيح وإلى ملكوته.

هذه هي الكنيسة التي وعد يسوع ببنائها في متَّى 16. هذا هو جسد المسيح الكامل، وعائلة الله، وهيكل الروح القدس. وتأتي عضويَّة هذا الجسد مع الخلاص.

الكنيسة المحلِّيَّة – جماعة أرضيَّة

ومع ذلك، يجب أن تظهر عضويَّة المؤمن السماويَّة في الكنيسة العامَّة على الأرض، تمامًا كما يجب أن يظهر البرُّ المسيحيُّ المعطى للمؤمن في المسيح في أعمال البرِّ (يعقوب 2: 14-26). إنَّ العضويَّة في الكنيسة العامَّة تصف الواقع “المكانيَّ”. إنَّه مكان أو مكانة سماويَّة في قاعة حكم الله. لذلك فهي حقيقيَّة مثل أيِّ شيء آخر في العالم أو خارجه. ومع ذلك، يجب على المسيحيِّين أن يلبسوا أو يجسِّدوا أو يعيشوا هذه العضويَّة العامَّة بشكل ملموس. تمامًا كما يقول بولس، يجب أن “نلبس” برَّنا المكانيَّ ونُظهر أعمال البرِّ الفعليَّة (أفسس 4: 24؛ كولوسي 3: 10، 14).

بعبارة أخرى، إنَّ عضويَّتنا في جسد المسيح العامِّ والسماويِّ لا يمكن أن تبقى فكرة مجرَّدة. إن كان الأمر حقيقيًّا، فسوف يظهر على الأرض -في الوقت والمكان الفعليَّين مع أناس حقيقيِّين، أشخاص بأسماء مثل بيتي وسعيد وجمال، أشخاص لا يمكننا اختيارهم ولكنَّهم يخطون على أصابع قدمنا ويحبطوننا وأيضًا يشجِّعوننا ويساعدونا على اتِّباع يسوع. يجب أن تظهر العضويَّة في الكنيسة العامَّة في التجمُّع المحلِّيِّ للمؤمنين.

لتلخيص هذه العلاقة، تُنشئ الكنيسة العامَّة كنائس محلِّيَّة، بينما تبرهن الكنائس المحلِّيَّة وتقدِّم أدلَّة وتعرض، بل وتحمي، الكنيسة العامَّة، على النحو التالي:

ضع في اعتبارك ما يعنيه هذا: إن قال شخص ما إنَّه ينتمي إلى الكنيسة ولكن ليس له أيُّ علاقة بكنيسة، فقد يتساءل المرء عمَّا إذا كان ينتمي حقًّا إلى الكنيسة، تمامًا كما نتساءل عن شخص يدَّعي أنَّه مؤمن لكن ليس له أيُّ أعمال إيمان.

إنَّ الكنيسة المحلِّيَّة هي المكان الذي نرى فيه ونسمع ونربت فيه حرفيًّا على أكتاف الكنيسة العامَّة –ليس كلُّ الكنيسة العامَّة، لكن تعبير عنها.

إنَّها بؤرة أرضيَّة مرئيَّة للجماعة السماويَّة. إنَّها آلة زمن أتت من المستقبل، وتقدِّم نظرة عن هذه الجماعة النهائيَّة.

الاجتماع، الإقرار المشترك، الوعظ، ممارسة الفرائض

تصبح الكنيسة العامَّة بشكل أكثر تحديدًا كنيسة محلِّيَّة –إذ تصبح مرئيَّة- من خلال (1) اجتماع أو تجمُّع منتظم من الناس، (2) الإقرار المشترك، (3) الوعظ بالإنجيل، (4) والمشاركة في المعموديَّة وعشاء الربِّ.

دعونا نؤكِّد ونشرح ذلك. تمتلك كلُّ أمَّة ومملكة طريقة ما لتقول من هم مواطنيها. اليوم، تستخدم الدول جوازات السفر والحدود. استخدمت إسرائيل القديمة كلاًّ من الختان وحفظ السبت وعلامات العهد الإبراهيميِّ والموسويِّ على التوالي. إنَّ الكنيسة ليست مملكة أرضيَّة في الوقت الحاليِّ، ولكنَّ هذه المملكة السماويَّة تحتاج إلى طريقة ما لدعم وتأكيد مواطنيها على الأرض أيضًا. كيف تفعل ذلك؟ كيف يمكن لهؤلاء المواطنين السماويِّين أن يعرفوا من هم، لأجل صالحهم ولأجل الأمم؟

للإجابة عن هذا السؤال، قدَّم يسوع علامات العهد لأعضاء العهد الجديد: علامة الدخول وهي المعموديَّة، حيث يُعمَّد الناس باسمه (متَّى 28: 19)؛ وعلامة العشاء الربَّانيِّ المستمرِّ، إذ يؤكِّدون لبعضهم البعض أنَّهم أعضاء من جسده (1 كورنثوس 10: 17).

وليس ذلك فحسب، فلقد أعطى للكنائس المحلِّيَّة سلطة تأكيد أعضائها علنًا كمواطنين في مملكته -لتثبيت هذه العلامات العهديَّة، تقريبًا مثل مدرِّب يوزِّع قمصان الفريق. ولهذه الغاية، أعطى الكنائس مفاتيح الملكوت لتربط وتحلَّ على الأرض ما هو مربوط أو محلول في السماء (متَّى 16 :19؛ 18: 18). ماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّ الكنائس تمتلك السلطة لإصدار الحكم على ما ومَن هم للإنجيل -الاعترافات والمعترفون. وبهذه المفاتيح، أُعطيَ للكنائس السلطة لأن تقول: “نعم، هذا هو اعتراف الإنجيل الذي نؤمن به ويجب أن تؤمن به لتكون عضوًا”. ولتقول: “نعم، هذا هو الاعتراف الحقيقيُّ. سنعمِّدها لتكون عضوة”، أو “سنزيله من العضويَّة ومن مائدة الربِّ بسبب الخطيَّة التي لم يتب عنها”. لقد أعطى يسوع لهذه الجماعة المجتمعة مفاتيح الملكوت لكي يكتبوا إعترافات الإيمان ولكي يملئوا سجلاَّت العضويَّة.

لذا التعريف 2: الكنيسة المحلِّيَّة هي جماعة الإقرار المشترك، من أعضاء العهد الجدد ومواطني المملكة، ويتمُّ تحديدها من خلال التجمُّع المنتظم باسم يسوع من خلال الوعظ بالإنجيل وممارسة الفرائض.

يصف يسوع هذه الكنيسة المحلِّيَّة المجتمعة في متَّى 18. إنَّها تعبير عن جسد المسيح وعائلة الله وهيكل الروح القدس.

تاريخ الكنيسة المبكِّرة: النزعة نحو الكنيسة العامَّة

من خلال تاريخ الكنيسة، نرى أنَّ الأفراد والثقافات المختلفة ركَّزوا إمَّا على الكنيسة العامَّة وإمَّا المحلِّيَّة.

في الأجيال الأولى التي أعقبت الرسل، انصبَّ التركيز بحقٍّ على كليهما، على الأقلِّ كما حكمت الرسائل المبكِّرة للكنائس وقادتها من قبل رعاة مثل إكليمندس الرومانيِّ وإغناطيوس. ويشير الديداخي، الذي يعود إلى القرن الثاني الميلاديِّ، إلى نفس الشيء، من خلال التركيز المزدوج على الأعمال العمليَّة للكنيسة المحلِّيَّة والأمانة المسيحيَّة على نطاق أوسع.

ومع ذلك، مثلما يحوِّل الناس أحيانًا ثقلهم من أن يكون على القدمين معًا إلى أن يكون على قدم واحدة، فإنَّ كتابات آباء الكنيسة التي كُتبت في القرون الثالث والرابع والخامس تقدِّم تركيزًا متزايدًا على الكنيسة العامَّة، وإن كان ذلك في مظهر مؤسَّسي. كانت هناك أسباب تاريخيَّة لذلك. إذ كانت تظهر العديد من البدع اللاهوتيَّة. كذلك، انقسمت الكنائس حول كيفيَّة معاملة المؤمنين (والأساقفة على وجه الخصوص) الذين أنكروا المسيح في وجه الاضطهاد ولكنَّهم طلبوا بعد ذلك أن يُعاد قبولهم. دفعت مثل هذه التحدِّيات الرعويَّة الجميع من كبريانوس إلى أوغسطينوس إلى تأكيد أهمِّيَّة الاتِّحاد بالكنيسة الواحدة المقدَّسة الجامعة الرسوليَّة -أي الكنيسة العامَّة. وبدؤوا يقولون إنَّ الوحدة مع الكنيسة الجامعة الحقيقيَّة تتطلَّب الوحدة مع الأسقف الصحيح. والوحدة مع الأسقف الصحيح، كما قالوا في النهاية، تعني الوحدة مع أسقف روما أو البابا. بمعنى آخر، أصبحت الكنيسة الجامعة أو العامَّة حقيقة أرضيَّة بقدر ما أصبحت حقيقة سماويَّة. كانت تنتمي إلى الهياكل المؤسَّسيَّة التي تربط الكنيسة العامَّة معًا رسميًّا -وهي أسقفيَّة من المفترض أن تعود إلى بطرس وتركِّز على البابا.

سوف يكسر الإصلاح البروتستانتيُّ هذا النمط من خلال تقديم مفهوم روحيٍّ أكثر للكنيسة الجامعة. ويؤكِّد أيضًا ضرورة وجود هياكل خارجيَّة في حياة الكنيسة، لكنَّهم بدؤوا أيضًا في التمييز بين الكنيسة المنظورة وغير المنظورة. لقد عارضوا فكرة أنَّ الشخص يمكن أن ينتمي إلى الكنيسة المنظورة، ولكن ليس الكنيسة غير المنظورة، والعكس صحيح، لأنَّ الخلاص لا يتمُّ اكتسابه ميكانيكيًّا من خلال المعموديَّة أو العشاء الربَّانيِّ ولكن يُكتسب فقط عن طريق التجديد والإيمان. ولقد أعاد هذا التركيز على الكنيسة غير المنظورة فاعليَّة جامعيَّة أو شموليَّة الكنيسة للصورة الروحيَّة، وليست المؤسَّسيَّة. بعبارة أخرى، ستثبت الكنيسة العامَّة في اليوم الأخير أنَّها الكنيسة غير المنظورة عبر المكان والزمان، وليس مجرَّد من أطلقوا على أنفسهم أعضاء في الكنائس المنظورة.

تاريخ الكنيسة المتأخِّر: النزعة نحو الكنيسة المحلِّيَّة

ومع ذلك، فإنَّ المصلحين الأوائل مثل لوثر وكالفن وكرانمر كانوا لا يزالون يحتفظون بمساحة في تفكيرهم لشكل مؤسَّسيٍّ من الوحدة والشموليَّة (الكاثوليكيَّة العالميَّة). لقد كانت طوائفهم “ترابطيَّة”، بمعنى أنَّ الكنائس كانت مرتبطة رسميًّا وبشكل موثق بعضها ببعض. ومن خلال معرفتهم، كان هذا الارتباط الرسميُّ هو شرط الوحدة وبالتالي الشموليَّة. ومن ثمَّ، فقد عاملوا الكنيسة المنظورة على أنَّها أكبر من الكنيسة المحلِّيَّة –أو تجمُّع الناس في مكان واحد. كما تضمَّنت التسلسلات الهرميَّة التي كانت في الكنيسة الأكبر، سواء كانوا كهنة أو أساقفة. ومن ثمَّ، فإنَّهم أطلقوا على كنائسهم أسماءً مثل “كنيسة إنجلترا” أو “الكنيسة اللوثريَّة الألمانيَّة”. ليس من الغريب أنَّ لاهوتهم أيضًا قد أكَّد التمييز بين الكنيسة المنظورة في مقابل غير المنظورة أكثر من التمييز بين الكنيسة المحلِّيَّة في مقابل العامَّة. إنَّ ممارسة معموديَّة الأطفال، وحقيقة أنَّ الأطفال غير المتجدِّدين سيعامَلون كأعضاء في الكنائس، زاد من الحاجة إلى التمييز بين غير المنظور في مقابل المنظور. فبعد كلِّ شيء، ينتمي الأطفال غير المتجدِّدين إلى الكنيسة المنظورة ولكن ليس إلى الكنيسة غير المنظورة.

ومع ذلك ففي غضون عقدين من الإصلاح، أعاد مجدِّدو المعموديَّة والمعمدانيُّون في نهاية المطاف وحدة الكنيسة الجامعة أو العامَّة بشكل كامل إلى السماء. لقد ناقشوا فكرة أنَّ كلَّ كنيسة يجب أن تظلَّ مستقلَّة مؤسَّسيًّا وأن تتكوَّن فقط من المؤمنين. كما ناقشوا فكرة أنَّ الكنيسة المنظورة على الأرض ليست سوى الكنيسة المحلِّيَّة، والكنيسة المحلِّيَّة فقط -الجماعة المجتمعة والموجودة معًا بشكل جغرافيٍّ. هم يقولون إنَّ كنيسة إنجلترا ليست كنيسة. إنَّها عبارة عن هيكل داخليٍّ أو إداريٍّ يربط عديدًا من الكنائس معًا.

لكن يتمثَّل الخطر الآن بين الجماعات المعمدانيَّة في تحويل وزن الجسد بالكامل إلى القدم الأخرى، حيث يولي المؤمنون كلَّ اهتمامهم للكنيسة المحلَّيَّة والقليل من الاهتمام للكنيسة العامَّة. قد تجادل مجموعات معيَّنة من الكنائس المعمدانيَّة، مثل “لاندمركية المعمدانيَّة الجنوبيَّة” (Landmarkists) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لتقول بأنَّ الكنيسة المحلِّيَّة هي الوحيدة الموجودة. وقد يرفضون أيضًا مشاركة العشاء الربَّانيِّ مع أيِّ شخص لم يكن عضوًا في كنيستهم. ونشكر الله أنَّ هذه المجموعات نادرة.

كان الأكثر شيوعًا في كنائس أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين أن يتمَّ تمييز قادة الكنيسة ذوي العقليَّة التجاريَّة والتسويقيَّة. ستؤكِّد هذه الكنائس شفهيًّا وجود الكنيسة العامَّة. وسوف يمجِّدون الله في عظاتهم لأجل المؤمنين الموجودين في كلِّ العالم. لكنَّ ممارسات الاعتماد على الذات في الكنيسة غالبًا ما تتجاهل الكنيسة العامَّة. إنَّ عقليَّة السوق تستخدم لغة الخدمة والأساليب التي تعزِّز بفاعليَّة هويَّة الكنيسة كعلامة تجاريَّة، مثل إعلان مطعم للوجبات السريعة عن طريقته الخاصَّة في تحضير الهامبرغر. هذا له تأثير، ربَّما عن غير قصد، في تحريض الكنائس بعضها ضدَّ بعض. على سبيل المثال، فإنَّ تقارير إرساليَّة الكنيسة التي كانت شائعة في العقود القليلة الماضية تسلِّط الضوء على تأكيدات دور الكنيسة الفريدة، كما لو أنَّ يسوع لم يعطِ كلَّ كنيسة نفس الإرساليَّة (متَّى 28: 18-20). وهذا التركيز على ما هو فريد، بدلاً من التركيز على الشراكة المشتركة، يتوافق مع العمل بشكل منفصل عن الكنائس الأخرى، وليس العمل معًا. لذلك عندما يكون مبنى الكنيسة ممتلئًا، فإنَّ الغريزة الأولى للكنيسة تكون عدم زرع كنيسة أخرى. بدلاً من ذلك، تبدأ اجتماعًا آخر أو موقعًا ثانيًا. وقد تدعو هذه الكنائس قساوسة من بلدان أخرى للزيارة ومشاركة طلبات الصلاة من المنبر، لكنَّهم لن يفعلوا ذلك مع قسٍّ من نفس الشارع.

بشكل عامٍّ، لا تشتمل العقليَّة الثقيلة للتسويق والعلامات التجاريَّة على معاداة الكنائس الأخرى، كما هو الحال بين مطاعم الوجبات السريعة. ومع ذلك، فإنَّ هذا يعني أنَّ الكنائس القريبة تتجاهل بعضها بعضًا. والأسوأ من ذلك أنَّهم وضعوا أنفسهم فعليًّا في مجال واسع من المنافسة غير المعترف بها، إذ يقوم المتحدِّثون الأكثر جاذبيَّة وذوو أفضل البرامج بسحب أعداد من المؤمنين بعيدًا عن الكنائس المحيطة. وبالتالي، فإنَّ الشراكة بين الكنائس في نفس الحيِّ أو المدينة أمر نادر الحدوث.

تأكيد كلٍّ من الكنيسة المحلِّيَّة والعامَّة

إنَّ الصورة الكتابيَّة تضع وزن الجسد على كلا القدمين -الكنيسة المحلِّيَّة والعامَّة.

“تظهر” الكنيسة العامَّة في التجمُّعات المحلِّيَّة، كما تناقشنا في البداية. ومع ذلك، يجب أيضًا أن “تظهر” في شخصيَّة كلِّ كنيسة لكي تتشارك مع الكنائس الأخرى، كما كان الحال بين كنائس العهد الجديد. تشاركت كنائس العهد الجديد في المحبَّة والتحيَّة (رومية 16: 16؛ 1 كورنثوس 16: 19؛ 2 كورنثوس 13: 13؛ إلخ). شاركوا الوعَّاظ والمرسلين (2 كورنثوس 8: 18؛ 3 يوحنَّا 5-6أ). لقد دعَّموا بعضهم بعضًا مادِّيًّا بفرح وشكر (رومية 15: 25-26؛ 2 كورنثوس 8: 1-2). لقد حاكوا بعضهم بعضًا في الحياة المسيحيَّة (1 تسالونيكي 1: 7؛ 2: 14؛ 2 تسالونيكي 1: 4). لقد اهتمُّوا بعضهم ببعض مادِّيًّا (1 كورنثوس 16: 1-3؛ 2 كورنثوس 8: 24). وصلُّوا بعضهم من أجل بعض (أفسس 6: 18). وأكثر من ذلك.

قد يختلف المسيحيُّون اليوم بخصوص ما إذا كان الكتاب المقدَّس يقصد إنشاء وحدة مؤسَّسيَّة أو اتِّصال بين الكنائس (أنا لا أعتقد أنَّه يفعل ذلك). لكن يجب على كلِّ كنيسة محلِّيَّة أن تحبَّ الكنيسة العامَّة من خلال المحبَّة والشراكة والدعم للكنائس المحلِّيَّة الأخرى، بما في ذلك الكنائس القريبة منها. يجب أن نكون مستعدِّين لمشاركة العشاء الربَّانيِّ مع الأعضاء المعمَّدين للكنائس الأخرى عندما يزوروننا.

كذلك يجب على كلِّ طائفة أن تؤكِّد ضرورة انضمام المؤمنين إلى الكنائس المحلِّيَّة، لأنَّ هذه الكنائس المحلِّيَّة هي تعبير عن الكنيسة العامَّة. لقد أرسل وطننا السماويُّ سفراء وأنشأ سفارات هنا والآن. إنَّ تلك الكنائس المجتمعة هي نقطة مركزيَّة، صورة، تمثيل للجماعة الأخيرة. فإن كنت تنتمي إلى الكنيسة، فإنَّك ستريد الانضمام إلى كنيسة. إنَّه المكان الذي نجسِّد فيه إعلاننا وإيماننا وشركتنا وعضويَّتنا في جسد المسيح.

قراءات أخرى

  • Edmund Clowney, “The Church as a Heavenly and Eschatological Entity,” in The Church in the Bible and the World, ed. D. A. Carson (1987; repr. Eugene, OR: Wipf & Stock, 2002).
  • Mark Dever, “A Catholic Church,” in The Church: One, Holy, Catholic, Apostolic, by Richard D. Phillips, Philip G. Ryken, and Mark E. Dever (Phillipsburg, NJ: P&R, 2004).
  • David Schrock, “An Ecclesiology of Churches: Why the Universal Church Is Best Regarded as a Myriad of Local Churches” (Nov 10, 2016).
  • Stephen J. Wellum, “Beyond Mere Ecclesiology: The Church as God’s New Covenant Community,” in The Community of Jesus: A Theology of the Church, edited by Kendell H. Easley and Christopher W. Morgan (Nashville, TN: B&H, 2013).
  • J. L. Dagg, “The Local Churches” and “The Church Universal” in Manual of Church Order (1858; repr. Harrisonburg, VA: Gano Books, 1990).
  • Jonathan Leeman, “What Is a Local Church” (8/22/14).
  • Jonathan Leeman, “A Church and Churches: Integration” (5/10/13).
  • Jonathan Leeman, “A You a Universal Church-er or a Local Church-er?” (7/27/16).

ملاحظة المحرِّر: تمَّ نشر هذه المقالة في الأصل في TGC وأعيد نشرها هنا بإذنٍ.

المزيد المتعلق بـ : مقالات