الوعظ واللاهوت

أربعة أسس كتابيَّة لوضع السياق

مقالة
11.30.2022

يُعَدُّ وضع السياق أحد أهمِّ الموضوعات في الإرساليَّات اليوم. فببساطة، وضع السياق هو الكلمة التي نستخدمها في عمليَّة جعل الإنجيل والكنيسة معاشين بقدر الإمكان في المنزل في سياق ثقافيٍّ معيَّن.

يميل المؤمنون الأمريكيُّون إلى التفكير في وضع السياق باعتباره شيئًا يفعله المرسلون “بعيدًا هناك”، ويقلق العديد من المؤمنين الجادِّين في العالم الغربيِّ بشأن المدى الذي تذهب إليه الكنائس غير الغربيَّة في جهودهم الخاصَّة بوضع السياق. لكنَّ في الواقع، كلَّ مسيحيٍّ على قيد الحياة اليوم ينخرط في وضع السياق. يعبد كلُّ مسيحيٍّ أمريكيٍّ في كنيسة حسب السياق. السؤال ليس ما إذا كنَّا سنضع السياق أم لا. فبطرق لا حصر لها، سواء في أمريكا الشماليَّة أو جنوب آسيا، كلُّ مؤمن على قيد الحياة يضع الإنجيل والكنيسة في سياق ثقافته، لأنَّنا جميعًا لسنا من يهود القرن الأوَّل الذين كانوا في منطقة فلسطين. وبالتالي، فإنَّ السؤال الذي يواجه كلَّ مؤمن وكلَّ كنيسة هو ما إذا كان سيتمُّ وضع سياق جيِّد أم لا. وأيُّ شخص يفشل في إدراك أنَّه يفعل ذلك، يفشل في التفكير فيه بعناية وبشكل كتابيٍّ، ويضمن ببساطة أنَّه سيضع سياقه بشكل سيِّئ. يمكن أن يحدث التوافق بين المعتقدات في إنديانا أو أيوا بنفس سهولة ذلك في إندونيسيا!

أوَّلاً وقبل كلِّ شيء، يجب أن نعترف بأنَّ الكتاب المقدَّس -وليس خبرتنا- هو المعيار الذي يتمُّ من خلاله تقييم كلِّ الأشياء. الكتاب المقدَّس معصوم، وصادق، وكافٍ. وعندما يعطي الكتاب المقدَّس أمرًا أو نهيًا أو نموذجًا ملزمًا، يكون الأمر قد تمَّ تسويته. وعندما يضع الكتاب المقدَّس حدودًا، لا يجب أن نتجاوزها. وداخل هذه الحدود، لا يوجد شيء محدَّد ليكون مقدَّسًا في طرقنا الثقافيَّة في القيام بالأشياء. فعلى مرِّ العصور وفي جميع أنحاء العالم، توجد تعبيرات ثقافيَّة أخرى للمسيحيَّة تكون مخلصة للكتاب المقدَّس تمامًا مثل تعبيراتنا. إنَّ المفتاح هو أن نجعل الكتاب المقدَّس يحكمنا، وأن نسمح لجسد المسيح العالميِّ أن يتكلَّم بكلمة الله في نقاطنا العمياء الخاصَّة.

تبدأ عمليَّة وضع السياق في الواقع في العهد الجديد نفسه. ربَّما تكون الفقرة الأولى من الكتاب المقدَّس المقتبسة على نطاق واسع عن هذا الموضوع هي 1 كورنثوس 9. وسيستخلص الجزء المتبقِّي من هذه المقالة من هذا المقطع أربع ملاحظات أساسيَّة لوضع سياق أمين.

  1. تخلَّى بولس عن حقوقه المشروعة.

يأتي مفتاح المقطع في الآية 12: “نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ.” كان شغف بولس هو تقدُّم الإنجيل. لم يكن يريد أيَّ شيء غير ضروريٍّ أن يقف في طريق هذا التقدُّم. كان على استعداد لتحمُّل أيِّ إزعاج أو مشقَّة شخصيَّة قد تُمكِّن الإنجيل من الانتشار بشكل أكثر فعاليَّة، بما في ذلك اختيار عدم الاستفادة من حقوقه المشروعة. على سبيل المثال، كان له الحقُّ في أكل اللحوم، ومرافقة زوجة مؤمنة، والحصول على دعم ماليٍّ. لم يكن ليخطئ في فعل أيٍّ من هذه الأشياء. في الواقع، فعلها رسل آخرون. حتَّى عندما رفض المساومة في أيِّ حقٍّ أو أمر كتابيٍّ في هذه العمليَّة، فقد تخلَّى عن طيب خاطر عن حقوقه حتَّى لا يضع أيَّ عقبة في طريق الإنجيل.

إنَّنا نكافح مع هذا بصفتنا أمريكيِّين. لقد تربَّينا على المطالبة بحقوقنا. فبصفتي أمريكيًّا حرًّا، لديَّ “الحقُّ” في القيام بالكثير من الأشياء التي قد تكون مسيئة في سياق ثقافي الجديد: ارتداء حذائي في داخل المنزل، أو تناول الطعام أو لمس أحدهم بيدي اليسرى، أو وضع سياج حول فناء منزلي من دون أخذ إذن من رئيس مجتمعي المحلِّيِّ، أو ترك حفلة عيد ميلاد قبل تقديم الأرز. فأنا لديَّ “الحقُّ” في أن أرتدي ما أريد، وأكل ما أريد، وأن أزيِّن منزلي كيفما أريد. في الوقت نفسه، ليس لديَّ وصيَّة كتابيَّة لفعل أيٍّ من هذه الأشياء. المسألة في ممارسة هذه الحقوق ليست طاعة الله، بل راحتي وما يلائمني. فإن كان أيُّ شيء أفعله، بخلاف تلك الأشياء التي يأمرني بها الكتاب المقدَّس، تجعل من الصعب على المسلمين أو الهندوس أو الملحدين سماع الإنجيل منِّي، فأنا بحاجة إلى أن أكون على استعداد للتخلِّي عنها طواعية.

  1. كان بولس خادمًا لغير المؤمنين.

ثانيًا، اتَّخذ بولس موقف العبوديَّة لغير المؤمنين. يكتب في الآية 19، “فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ.” إنَّه لا يتحدَّث هنا عن خدمة المؤمنين لأنَّه يخدم أولئك الذين يحتاج أن يربحهم. فلم يكتفِ بولس بالتخلِّي عن حقوقه، بل ذهب أبعد من ذلك واختار أن يضع نفسه كخادم لأولئك الذين يحاول الوصول إليهم بالإنجيل.

عندما نكون في خضم صدمة ثقافيَّة، غالبًا ما نريد أن نصحِّح الناس وليس أن نخدمهم. لكنَّ يسوع نفسه لم يأت ليُخدَم، بل ليخدِم. لقد خدم الناس الذين كانوا مخطئين، والذين تمرَّدوا عليه، والذين كانوا سيقتلونه في النهاية. لقد فهم بولس عقل سيِّده جيِّدًا في هذه النقطة. يعكس موقف العبوديَّة شخصيَّة المسيح. إنَّه يحطِّم الصور النمطيَّة ويسبِّب إسقاط الحواجز. العبوديَّة هي سمة أساسيَّة للخدمة الفعَّالة عبر الثقافات، ومن المفارقات أنَّها تحدِّد كيف نستفيد من حرِّيَّتنا في المسيح.

  1. عاش بولس مثل أولئك الذين بشَّرهم.

ثالثًا، صار بولس مشابهًا للأشخاص الذين كان يحاول الوصول إليهم، وتكيَّف مع أسلوب حياتهم بقدر استطاعته دون المساومة على قانون المسيح:

“فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ (على الرغم من أنَّني لم أكن تحت الناموس) لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ ­مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ­ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ.” (1 كورنثوس 9: 19-23)

إن كان لأيَّة ثقافة الحقُّ في اعتبار نفسها أكثر صلاحًا أو تقوى في جوهرها من كلِّ الثقافات الأخرى، فلقد كانت الثقافة اليهوديَّة. كان لبولس بالتأكيد “الحقُّ” في الحفاظ على تراثه الثقافيِّ اليهوديِّ. في نفس الوقت، تمَّ تحرير بولس من ثقل الناموس. ومع ذلك، كان يتصرَّف مع اليهود مثل اليهوديِّ، وكان يتصرَّف مع الأمميِّين مثل الأمميِّ. مع الضعفاء -أولئك الذين يعانون من توتُّرات وإخفاقات كتابيَّة غير مألوفة- عاش داخل ضعفهم. لقد أصبح كلَّ الأشياء لجميع الناس حتَّى يخلص البعض بكلِّ الوسائل. لقد تعرَّف على الأشخاص الذين كان يحاول الوصول إليهم. قام بتكييف أسلوب حياته مع أسلوب حياتهم في أيِّ شيء قد يمنعهم من سماع الإنجيل. لقد قدَّر الإنجيل أكثر من حقوقه، أكثر من راحته، وأكثر من ثقافته. إذا كان هناك أيُّ عثرة في تقديمه للإنجيل، فقد أراد أن تكون عثرة الصليب، وليس عثرة الاغتراب.

  1. كان بولس ملزمًا بالكتاب المقدَّس.

رابعًا، بقي بولس ضمن حدود الكتاب المقدَّس. ففي منتصف حديثه عن التشابه والتكيُّف، أدخل جملة اعتراضيَّة شديدة الأهمِّيَّة: “مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ” (الآية 21). فعلى الرغم من تحرُّره من مطالب حفظ الناموس الطقسيِّ ومن عقوبة الفشل في الحفاظ على شريعة الله تمامًا، فإنَّه لا يزال يعتبر نفسه تحت سلطة الله المعبَّر عنها في كلمته. لقد وضع الكتاب المقدَّس -من خلال لاهوته، ونظرته إلى العالم، وأوامره، ومبادئه- الحدود لتكيُّفه مع الأشخاص الذين كان يحاول الوصول إليهم.

يجب أن ينطبق نفس الشيء علينا. تعكس كلُّ ثقافة بشريَّة نعمة مشتركة، لكنَّ كلَّ ثقافة تعكس أيضًا السقوط. لذلك نحن لا نتكيَّف مع ما يتعارض مع الكتاب المقدَّس. كان فهم بولس لهذا المبدأ واضح. لقد رفض التكيُّف مع “حكمة” النظرة الشعبيَّة الهلينيَّة التي تحيط به لأنَّه أدرك أنَّها تنفي الإنجيل في صميمه، مهما بدت متطوِّرة. في الواقع، لم يتغاضَ بولس أبدًا عن التنوُّع أو التوافق في مسائل العقيدة. لم يستوعب الممارسات البذيئة للمعلِّمين المتجوِّلين المعاصرين. من المؤكَّد أنَّه لم يستوعب الفجور “المقبول” في مجتمع كورنثوس. إنَّ الثقافة البشريَّة والتقاليد الإنسانيَّة قابلة للتفاوض. لكنَّ كلمة الله ليست كذلك. على الإطلاق.

الخلاصة

وضع السياق هو أمر جيِّد لا مفرَّ منه. يمكن للإنجيل -ويجب- أن يكون في المنزل في كلِّ ثقافة. يجب أن نشابه أولئك الذين نحاول الوصول إليهم وأن نتكيَّف مع ثقافتهم، بغضِّ النظر عن الانزعاج الذي تسبِّبه لنا. ومع ذلك، فإنَّ الإنجيل أيضًا يتحدَّى ويدين كلَّ ثقافة في بعض النقاط (بما في ذلك ثقافتنا). عندما يرسم الكتاب المقدَّس خطًّا، يجب أن نرسم خطًّا. الهدف من وضع السياق ليس الراحة، بل الوضوح. لن يكون الإنجيل مريحًا أبدًا لأيِّ مجتمع ساقط أو لأيِّ إنسان خاطئ. هدفنا هو التأكُّد من أنَّنا لا نضع بأنفسنا أيَّ عقبات في طريق الإنجيل، وأنَّ العائق الوحيد هو حجر عثرة الصليب، وأنَّ معنى هذا الصليب واضح للجميع.


ملاحظة المحرِّر: هذه المقالة هي اختصار لسلسلة محاضرات يمكن قراءتها في مدوّنة Southeastern Seminary’s Between the Times، من هنا.

المزيد المتعلق بـ : مقالات