القيادة الكنسيَّة

قوَّة المثال

مقالة
11.27.2022

“إنَّ المثال ليس هو الشيء الرئيسيَّ في الحياة؛ إنَّه الشيء الوحيد”. من خلال هذه الجملة، أوضح المُرسَل الطبِّي والكاتب الشهير ألبرت شفايتسر (Albert Schweitzer) أهمِّيَّة وقوَّة المثال. كم واحد منَّا، نحن الذين نقرأ هذه المقالة، قد تأثَّر بالحياة القويَّة لقسٍّ أو شيخ أو مسيحيٍّ آخر رأيناه في وقت مبكِّر من حياتنا. فإن قُلتُ “قسًّا أمينًا”، فمن الذي ستظهر صورته في ذهنك؟ وإن ذكرتُ “مسيحيًّا أمينًا”، ففي من ستفكِّر؟

إنَّ عبارة شفايتسر هي مبالغة بالطبع. توجد أشياء أخرى كثيرة تتدخَّل في حياة المؤمنين، لكنَّ هذه الأشياء كلَّها يمكن دمجها جميعًا في النموذج الذي يقدِّمه شخص ما.

قد تبدو مفاهيم مثل “التوجيه” و”التشكيل” كمفاهيم جديدة، لكنَّها ليست كذلك. إذ يبدو أنَّ هذا كان في ذهن الله من الطريقة التي خلقنا بها. لقد خلق البشر على صورته. وعلينا أن نتبع مثاله ونقتدي بشخصه. في تجسُّد المسيح، جاء الله في الجسد بطريقة تمكِّننا أن نفهم ونتعامل معه، وكما قال بطرس: “تَارِكًا لَنَا مِثَالًا لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ” (1 بطرس 2: 21).

كذلك علينا أيضًا أن نشارك في هذه الخدمة وأن نجلس ونتبع الأمثلة. لقد خلق الله البشر لكي يُولَدوا وينموا في صحبة غيرهم من البشر في العائلة. فنحن لسنا من صُنع ذواتنا، ولا نُوجد على الفور كأشخاص ناضجين. خطَّط الله أن يكون الوالدان المُحِبَّان جزءًا من الطريقة التي ينمو بها البشر.

وهذه أيضًا هي الطريقة التي قصد الله أن يعلن بها عن نفسه في هذا العالم الساقط. دعا الله في العهد القديم إبراهيم ونسله ليكونوا شعبًا مقدَّسًا ومميَّزًا ومنفصلاً عن العالم. وكان عليهم أن يكونوا مميَّزين حتَّى يكون لدى العالم صورة عن المجتمع الذي يعكس شخصيَّة الله؛ يجسِّد اهتماماته وقِيَمه. عندما قال الله لشعبه في لاويين 19: “تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إِلهُكُمْ”، لم يكن يتحدَّث فقط إلى شخص، ليس لموسى أو هارون أو يشوع. كان يتحدَّث إليهم بالتأكيد، لكنَّنا نرى في لاويين 19: 1، 2 أنَّ الله أمر موسى تحديدًا أن يقول هذا لكلِّ جماعة إسرائيل. كانت للقوانين التي أعطاهم إيَّاها علاقة قويَّة بالعلاقات والحق والعدل والتفاعلات الاجتماعيَّة. وهو يوضِّح أنَّه بينما كان هؤلاء الناس يهتمُّون بعضهم ببعض -يهتمُّون بالتائه والضعيف، بالغريب والصغير- فإنَّهم سيُظهِرون شيئًا من شخصيَّة خالقهم العادل والرحيم.

إنَّ فشل إسرائيل في تقديم النموذج والمثال للآخرين هو إحدى الاتِّهامات الرئيسيَّة التي وجَّهها الله ضدَّ الأُمَّة في العهد القديم. لذلك في حزقيال 5، يصبح دور إسرائيل دور إرشاد الأُمم بالمثال السلبيِّ. “هذِهِ أُورُشَلِيمُ. فِي وَسْطِ الشُّعُوبِ قَدْ أَقَمْتُهَا وَحَوَالَيْهَا الأَرَاضِي… وَأَجْعَلُكِ خَرَابًا وَعَارًا بَيْنَ الأُمَمِ الَّتِي حَوَالَيْكِ أَمَامَ عَيْنَيْ كُلِّ عَابِرٍ، فَتَكُونِينَ عَارًا وَلَعْنَةً وَتَأْدِيبًا وَدَهَشًا لِلأُمَمِ الَّتِي حَوَالَيْكِ، إِذَا أَجْرَيْتُ فِيكِ أَحْكَامًا بِغَضَبٍ وَبِسَخَطٍ وَبِتَوْبِيخَاتٍ حَامِيَةٍ. أَنَا الرَّبُّ تَكَلَّمْتُ” (5: 5، 14-15). مرارًا وتكرارًا في حزقيال، يقول الله إنَّه يفعل ما يفعله بأُمَّة إسرائيل من أجل اسمه، أي لكي يُعرَف الحق المتعلِّق به بين شعوب العالم.

إنَّ هذه الشهادة الجماعيَّة عن شخص الله هي ما قصده الله أيضًا من خلال الكنيسة في العهد الجديد. في يوحنَّا 13، قال يسوع إنَّ العالم يجب أن يعرف أنَّنا تلاميذه لأنَّ لنا محبَّة بعضنا نحو بعض مشابهة لمحبَّة المسيح. كتب بولس إلى كنيسة أفسس: “لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلًا ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ. اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ” (أفسس 5: 8). في حياتنا كمسيحيِّين، وبشكل فرديٍّ، وبتأثير مضاعف في حياتنا معًا ككنائس، فإنَّنا نحمل نور رجاء الله في هذا العالم المظلم واليائس.

ومن خلال حياتنا كمسيحيِّين، نُعلِم بعضنا بعضًا والعالم المحيط بنا عن الله.

فإن كنَّا نحبُّ بعضنا بعضًا، فإنَّنا نظهر شيئًا ممَّا تعنيه محبَّة الله. ومن ناحية أخرى، “مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟” (1 يوحنَّا 4: 20). ففي قداستنا نُظهِر قداسة الله. إنَّنا مدعوُّون لكي نمنح الناس الرجاء في أنَّه توجد طريقة أخرى للعيش، غير حياة الإحباط الأنانيِّ التي تتآمر طبيعتنا الساقطة والعالم من حولنا لتشجيعنا على اتِّباعها.

أعزَّائي القسوس والشيوخ، ما الذي تُعلِّمه كنائسنا عن الله للعالم الذي يشاهدنا؟

هل نعلِّمهم أنَّ الله مقصور على جنسنا؟ هل نُعلِّمهم أنَّه يتسامح مع الخطيَّة والخيانة، ويتغاضى عن حياة الضلال والخصام؟ ما مدى الجدِّيَّة التي قُدنا بها شعبنا إلى أخذ المهمَّة والامتياز العظيم الذي نتمتَّع به، والمتمثِّل في أن نكون الواجهة العامَّة، نافذة المتجر، الإعلان، الصفحة الإلكترونيَّة الخاصَّة بشخصيَّة الله لخليقته؟

يا له من امتياز عظيم منحنا الله إيَّاه، ويا لضآلة اهتمامنا بذلك. إنَّنا نعتقد أنَّنا إن حصلنا على مزيدٍ من الأشخاص في كنيستنا، فإنَّ هذا ينفي بطريقةٍ ما مسؤوليَّتنا تجاه أولئك الذين تمَّ دعوتهم بالفعل كأعضاء. ولكن ما هي الشهادة التي يقدِّمها كلُّ واحد من هؤلاء الآن؟ كم من شهادتهم السيِّئة يجب أن تجتهد لكي تتغلَّب عليها حتَّى يرى الناس الشهادة الصالحة التي يقدِّمها الله من خلال أولئك الذين تغيَّروا حقًّا وصاروا يظهرون ذلك؟

إنَّ الممارسة الكاملة للتأديب الكنسيِّ لا تتعلَّق في النهاية بالتبرير أو بالعقاب. فهذه الأمور تَخُص الله، وليس خطاة مغفوري الخطايا مثلنا (تثنية 32: 35؛ رومية 12: 19)! لكن ما يتعلَّق بنا هو أن نقدِّم شهادة جيِّدة للآخرين عن صورة الله.

يجب أن نكون مثالاً في حياتنا وسلوكنا. هل لاحظت أنَّ بولس في رسائله الراعويَّة يبدو مهتمًّا بشكل خاصٍّ بالسمعة التي يمكن أن يتمتَّع بها الشيخ مع مَن هم من خارج الكنيسة؟ ورغم أنَّه يوجد عدد من الأسباب لهذا، فإنَّ أحدها بالتأكيد هو أن يكون للشيخ دور كممثِّل عن الكنيسة أمام العالم. إذًا، هذا هو ما ستكون عليه الكنيسة ككلٍّ أيضًا. هذا هو سبب غضب بولس في 1 كورنثوس 5. هل لاحظت مَن الذي يوبِّخه بولس بالتحديد؟ هو لم يوبِّخ الرجل الذي كان في علاقة جنسيَّة خاطئة، بل وبَّخ الكنيسة بشدَّة لأنَّها تحتمل مثل هذه الخطيَّة بين أعضائها!

نحن نعلم الحقيقة المحزنة وهي أنَّ بعضًا من أفرادنا سيتَّضح أنَّهم ضائعون في الخطيَّة، على الرغم من أنَّهم قاموا بعمل جيِّد في البداية. ونحن على ثقة بأنَّ بعضهم على الأقلِّ سيعيش لكي يتوب ويرجع. لكنَّنا لا نتوقَّع أبدًا أن تفشل الكنيسة بشكل جماعيٍّ في تحقيق مسؤوليَّتها في تمثيل الله بشكل جيِّد من خلال الوقوف إلى جانب القداسة وضدَّ الخطيَّة. كانت هذه القضيَّة -تمامًا مثل خطيَّة عبادة إسرائيل للأوثان في العهد القديم- محور توبيخ بولس الحادِّ لكنيسة كورنثوس.

أيُّها الأصدقاء، ماذا سيقول الرسول بولس عن كنيستك وكنيستي؟ ما مقدار عدم المواظبة الذي سنتحمَّله باسم المحبَّة؟ كم عدد علاقات الزنا أو حالات الطلاق غير الكتابيَّة التي نسمح بتمريرها دون تعليق في كنائسنا، والتي تصرخ إلى العالم قائلة “لسنا مختلفين عنهم”؟ كم عدد الأشخاص المثيرين للانقسام الذين نسمح لهم بتمزيق الكنيسة بسبب قضايا صغيرة، أو كم عدد الأناجيل الكاذبة التي نسمح بتعليمها؟

إخوتي الأعزَّاء، إن كنت تقرأ هذا كراعٍ أو كشيخ أو كقائد أو كمعلِّم أو كعضو في الكنيسة، فكِّر في المسؤوليَّة الكبيرة التي تقع على عاتقك. تأمَّل كيف يمكنك أن تشهد لله بشكل أفضل؛ هل بتجاهُل الخطيَّة في وسطنا، أو بالعمل على إعادة أولئك الذين وقعوا في الخطيَّة برفق كما يرشد بولس في غلاطية 6: 1؟ أيُّهما أفضل في إظهار صورة الله الذي نعبده؟ هل رحمة الله تحجب قداسته في كلمته؟ ماذا عن كنيسته؟ ما هي وكالتنا في هذا الأمر؟

انتبه للمثال الذي تقدِّمه إلى العالم من حولك. الله لديه خطَّة عظيمة لشعبه ولعالمه. وهو يدعونا إلى إظهار ذلك بكلماتنا وحياتنا. هل تفعل ذلك؟ ليُعين الله كلَّ واحدٍ منَّا على أن يكون أمينًا في هذه الدعوة العظيمة.

المزيد المتعلق بـ : مقالات