الكرازة والإنجيل

إفريقيا، وإنجيل الرخاء، ومعضلة الكنائس غير المحروسة

مقالة
11.28.2022

لا يمكن إنكار أنَّ العديد من تشوُّهات الإنجيل، وعلى رأسها إنجيل الرخاء، قد تسرَّبت لكثير من الكنائس الإفريقيَّة. ولكن قبل أن نتعامل بفاعليَّة مع مشكلة إنجيل الرخاء، ينبغي أن نسأل لماذا سمحت العديد من الكنائس الإفريقيَّة بانسلال هذا الإنجيل الكاذب من دون أيِّ مواجهة. فأين الحرَّاس، والمنذرون؟ ولماذا يوجد حتَّى هذه اللحظة هذا الصمت الذي يصمُّ الآذان من الكنائس المحلِّيَّة الإفريقيَّة؟

مشكلة إنجيل الرخاء اليوم، مثلها مثل أيِّ شيء آخر، متجذِّرة من مشكلات اللاهوت الكنسيِّ السابقة.

بشكل عامٍّ، يبدو أنَّ كلَّ جهود الكرازة بالإنجيل في إفريقيا لم توفِّر أيَّ آليَّة يقدر بها المؤمنون المسيحيُّون أن يحموا الإنجيل ويحافظوا عليه من هذه المخاطر المستمرَّة بتشويهه. وعلي سبيل المثال، تمَّ إيلاء القليل من الاهتمام لفَهم عقيدة الاهتداء وما تعنيه بالنسبة للعضويَّة الكنسيَّة الهادفة وللتأديب الكنسيِّ. وكذلك، لم يهتمَّ المُرسلون والقسوس بماذا يُعلِّم الإنجيل عن إدارة الكنيسة، ومسؤوليَّة كلِّ عضو تجاه حمايتها من المعلِّمين الكذبة أو الحاجة إلى عدد من الشيوخ. وبدلاً من ذلك، تمَّ اعتبار الإنجيل كأمر مُسَلَّم به ولا تزال الكنيسة الإفريقيَّة تُعاني. فتبقى هناك حاجة ماسَّة إلى مُرسَلين وكنائس على دراية بالمشكلات ومُجهَّزين بحلول كتابيَّة أفضل وأكثر.

أين كلُّ “المسيحيِّين”؟

يواجه المُرسَلون اليوم الذين يعملون على الوصول إلى بعض المناطق الإفريقيَّة مجتمعًا مُحَصَّنًا ضدَّ الإنجيل. فالمدن تحتشد بأُناس مُعتمدين ومُعترَف بهم كأعضاء في كنائس من طائفة أو أخرى، وهذا يرسِّخ صفتهم المسيحيَّة، حتَّى إذا كانت حياتهم لا تُظهِر الكثير من أيِّ ثمر لعمل الروح أو أيِّ دليل على حياة التوبة والإيمان بالمسيح. فعلى سبيل المثال، 80 بالمئة من زملائي الكينيِّين يُعرِّفون أنفسهم كمسيحيِّين، وعلى الرغم من هذا، الكثير منهم غير منتظم بالذهاب إلى الكنيسة، هذا إن ذهب أحد على الإطلاق. فهم بلا حاجة إلى الإنجيل والكنيسة، أو هذا ما يعتقدونه، وذلك لأنَّهم “مسيحيُّون” بالفعل.

والآخرون الذين ربَّما يذهبون إلى الكنيسة أكثر من الذين ذكرناهم أعلاه، يذهبون إلى كنائس لا يُوعَظ فيها الإنجيل بوضوح. فعلى الرغم من حرارتهم وحماسهم بالمسيحيَّة، فإنَّ جزءًا كبيرًا منهم سيُعاني في إعلان الإنجيل حتَّى في أبسط صوره. فخدمات الإنجيل الحقيقيَّة التي تـأسَّست منذ عقود، في كثير من الحالات، أصبحت فيما بعد كنائس ضعيفة لاهوتيًّا مستسلمة لانحرافات تعليم إنجيل الرخاء.

لا شكَّ أنَّ الإنجيل الكاذب يدمِّر إفريقيا دون مقاومة تُذكَر. فعندما تمتلئ الكنائس بأولئك الذين لا يعرفون رسالة الإنجيل ويعيشون في أغلب الأوقات حياة تحتقر الإنجيل، فلن يستطيعوا حماية أنفسهم من الانحرافات التي تلحق برسالة الإنجيل والحياة المسيحيَّة، ناهيك عن إثارة القلق بين مجتمعهم بخصوص الزيف المتنكِّر في هيئة حقٍّ.

نعرف أنَّ الربَّ يبقى أمينًا، وقد أرسل شعبه بالفعل إلى هذه البلاد. وهذه صلاتنا المستمرَّة ورجاؤنا بأن يُقيم الربُّ مزيدًا من هؤلاء المُرسلين ليأتي اليوم الذي سنُعرف فيه المشهد الكنسي في إفريقيا، بأنَّه قد اندثر إنجيل الرخاء. ولكن إلى حين، لا تزال هذه المشكلة قائمة. لذا، كيف يمكن أن نقوم بإرساليَّات تحمي رسالة الإنجيل من أجل الجيل الحاليِّ والأجيال القادمة؟

هل التعليم اللاهوتيُّ كافٍ؟

في الوقت الراهن، جانب كبير من مساعي الإرساليَّات يتركَّز على التعليم اللاهوتيِّ. نجد في حالات كثيرة أنَّ القسوس في المدن لا يتمتَّعون بأيِّ شكل من أشكال التدريب اللاهوتيِّ. فبشكل عامٍّ، لم يركِّز سعي الإرساليَّات السابقة على إعطاء تركيزًا في تمكين القسوس الذين تُرِكوا في موضع المسؤوليَّة. وأدَّى هذا الغياب للتلمذة المتينة إلى ضحالة لاهوتيَّة مستمرَّة، تارِكًا الكنائس المحلِّيَّة عرضة لأيِّ خطأ مُصاب به حاضر مُجتَمعها.

وكردِّ فعل لذلك، يتمُّ تأسيس مؤسَّسات لاهوتيَّة في جميع أنحاء القارَّة. وتزداد المؤتمرات والندوات اللاهوتيَّة في إطار محاولتنا اللحاق بالركب بعد أن أدركنا أنَّ الجهود الإرساليَّة السابقة، رغم كونها مفيدة في جلب كثيرين إلى الربِّ، فإنَّها أثبتت عدم موثوقيَّتها في الحفاظ على الإنجيل للجيل الآتي. وهذا أمر جيِّد، وعاجل أيضًا. ومع ذلك، على الرغم من الجهود المتجدِّدة لتدريب الرعاة، لا تزال قارَّتنا تفتقر إلى عددٍ كافٍ من الرجال المؤهَّلين للقيام بالتدريب، وتفتقر أيضًا إلى الموارد الوافية لتتميم هذه المهمَّة.

ومع ذلك، لا تزال هناك نقطة عمياء تصيب هذه الجهود التبشيريَّة الجديرة بالثناء. فتفتقر معظم جهود زرع الكنيسة والتدريب الراعويّ إلى التركيز على الكنيسة المحلِّيَّة. فتمَّ التركيز على اللاهوت النظاميِّ وباقي أفرع العقيدة المسيحيَّة كما ينبغي، ولكنَّ لاهوت الكنيسة مع الأسف لم يُعلَّم، ونتيجةً لذلك، يُساء فهمه. هذه حقيقة محزنة في المقام الأوَّل لأنَّ هذه الكنائس المحلِّيَّة المفترضة هي خطَّة الله الأساسيَّة لكيفيَّة عرض الإنجيل وحفظه للأجيال القادمة -وليس المعاهد اللاهوتيَّة، ولا المؤتمرات، ولا مراكز التدريب اللاهوتيِّ.

كتب بولس في رسالته إلى تيموثاوس، التي تتَّسم بدسامة التعليم عن الكنيسة: “أرجو أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَنْ قَرِيبٍ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ، فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ، الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ” (1 تيموثاوس 3: 14-15). فكيفيَّة إدارة الكنيسة لحياتها مرتبط تمامًا بكيفيَّة حفاظها للحقِّ.

ستخدم الكنائس الجيل الحاليَّ في إفريقيا بشكل أفضل إذا كانوا على استعداد لحرمانهم كنسيًّا تمامًا كما كانوا راغبين في تعميدهم. فوجود مدينة ممتلئة بأُناس يدَّعون بأنَّهم أتباع المسيح لكنَّهم يعيشون حياة لا تليق بالإنجيل، يشوِّه حقَّ الإنجيل لكلٍّ من الجيل الحاليِّ والأجيال القادمة. فالربُّ لا يرغب في الحفاظ على الحقِّ عن طريق الكتب الدقيقة لاهوتيًّا؛ بل يرغب نفوسًا تعكس ذلك الحقَّ بالعيش معًا في الكنائس المحلِّيَّة.

نحتاج إلى كنائس أمينة

فإذا علَّمنا الكنائس اليوم بأنَّهم في الإرساليَّات، ليسوا مجرَّد مشاهدين لكنَّهم حماة للإنجيل، فيمكن أن يستبعدوا القسَّ الآتي الذي سيبدأ يكرز بهرطقة. فإذا علَّمنا الكنائس بأنَّ الاهتداء أكثر من مجرَّد صلاة، وإذا توقَّفنا عن مطالبة الناس بأن يتقدَّموا إلى الأمام وأن يرفعوا أيديهم ليستقبلوا يسوع، من الممكن أن يكون لدينا كنائس أصغر مأسورة بنعمة الربِّ المدهشة بدلاً من القسِّ البليغ المضلِّل المُرتدي بذلة لامعة. فمن الممكن أن يكون لدينا كنائس ستحرس الإنجيل بقوَّة أكبر لأجل مجد إلههم.

فوباء إنجيل الرخاء والمُهتدين غير الحقيقيِّين ليسوا قلب مشكلة الكنيسة الإفريقيَّة. فإنَّهم مجرَّد أعراض لمشكلة أكثر جوهريَّة. يريد الله أن تُبنى الكنيسة المحلِّيَّة بحيث تصمد أمام رياح الأكاذيب المختلفة. قد تكون اليوم هذه الرياح هي إنجيل الرخاء، وغدًا الغنوصيَّة. فتركيز مزيد من الجهود التبشيريَّة على بناء كنائس صحِّيَّة سيساعد على حماية الإنجيل لجيلنا الحاليِّ والأجيال القادمة.