الوعظ واللاهوت

مُدَّعُو الْوَعْظِ التَّفْسِيرِيِّ

مقالة
05.23.2022

كان مارك ديفير مُحقًّا حين وصَف الوعظ التَّفسيريّ بقوله: «هو الوعظ الذي يتَّخِذ هدف مقطعًا مُعيَّنًا من كلمةِ اللهِ موضوعًا للعظةِ بكاملِها.»

لٰكنِّي سمعتُ (وألقيتُ!) عظاتٍ تهدف لأن تكون تفسيرية، لٰكنها لم ترتقِ لهٰذا التعريف. إليك اثنا عشر شَرَكًا: خمسة منها لا تجعل من رسالة المقطع الكتابي رسالة العظة، ومن ثَمَّ تسيء استخدام النص, وخمسة منها تفصل النص عن المتلقين، واثنتان لا تعترفان أنَّ الوعظ هو في النهاية عمل الله.

لستُ أنا من أنشأ هٰذه الملاحظات. بل قد تعلَّمتُ الكثيرَ منها في كنيسة “عدن” المعمدانية في كامبريدج في منتصف التسعينيات. ومنها ما التقطتُهُ في مسيري في الحياة. منذ أن كتبتُ مقالًا مشابهًا منذ بضعة سنوات، أضمنتُ بعض اقتراحات أضافها بعض الأشخاص. وأنا متأكد أنه يمكنك إضافة المزيد إليها.

مُدَّعُون لا يرَونَ النَّصَّ

1) “عظةٌ لا أساسَ لها”: سوء فهم النص

يقول الواعظ هنا أمورًا قد تكون حقيقية، لٰكنها لا تأتي أبدًا من تفسير صحيح للفقرة الكتابية. فهو إمَّا لا يبالي بمحتوى النص (مثلًا، تكون العظة عن “الإنتاج، التحريض، الإلهام” من (1تسالونيكي1: 3) رغم أنَّ كلّ كلمة من هٰذه لا أصل لها في اليونانية)، أو لا يبالي بالسياق (مثلًا، تكون العظة عن داود وجليات، ويسأل: «من هو جليات الخاص بك، وما هي الخمسة حجارة المُلس التي تحتاجها لتتحضر لتواجهه؟»)

إنْ لم يُنَقِّب الواعظ بعمق عن الحق في كلمة الله ليقرر ما هي رسالة عظته، فعلى الأرجح سينقاد بأفكاره الشخصية لا بأفكارِ الله.

2) “عظةُ مَنصَّةِ الوَثب”: تجاهُل هدف النص

كثيرًا ما نجد عظةً ينجذب فيها الواعظ إلى تطبيق ثانويٍّ للنص، وليس للنقطة الرئيسية. تخيَّل عظةً عن عُرس قانا الجليل في يوحنا 2 تضع محور تركيزها على شرعية شرب المسيحيين للخمر ولا تقول شيئًا عن إظهار مجد المسيح في العهد الجديد من خلال معجزة يسوع في تغيير الماء إلى خمر.

من المميزات الكبرى للوعظ التفسيري المتتابع أنَّ الواعظ مُجبر على الوعظ في مواضيع كان يُفضِّل أن يتحاشاها، وعلى أن يعطيَ الحجمَ المناسبَ لمواضيعَ قد يميل هو للمبالغة في التأكيد عليها. إنَّ واعظ العظة “التي لا أساس لها” أو عظة “مَنَصَّة الوثب” يمكن بغير وعي أن يهمل كلا الميزتين، وبدلًا من ذٰلك نُسكت أچندةَ الله أو نُنَحِّيها جانبًا.

3) “العظة العقائديَّة”: يتم تجاهُل غنَى النص

لقد تكلم لنا الله ﴿بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ.﴾ (عبرانيين 1: 1)  تتجاهل عظات كثيرة النوعَ الأدبيَّ للنص، فيُقدَّم النص الكتابي سواء أكان قصصي، أم شعري، أم رؤيوي، أم حتى رسالة رسولية، بطريقة الوعظ ذاتها، كسلسلة من العبارات التفسيرية. وفي حين أنَّ كل العظات يجب أن تنقل حقائق تفسيرية، إلّا أنها لا يجب أن تنحصر فيها فقط. يجب أن يعني السياق الأدبي للفقرة الكتابية أنَّ العظة من نشيد الأنشاد تختلف عن العظة من أفسس 5. قد يكون للفقرة النقطة المركزيّة نفسها ، لٰكن يتم توصيلها بطريقة مختلفة. علينا أن نحتفيَ بالتنوع الأدبي في كلمة الله، لا أن نسطحه في وعظنا حتى يبدو كله متماثلًا، بل أن نوصلَه بطريقة حساسة للنوع الأدبي للنص. يجب أن يساعدنا الأسلوب القصصي على التوكيد، والأسلوب الشعري يجب أن يرفع من مستوى التجاوب العاطفي، وأن يتركنا الأسلوب الرؤيوي والنبوي في ذهول.

4) “عظةُ الطريق المختصر”: النص الكتابي لا يكاد يُذكَر

على عكس العظة التفسيرية، هٰذا النوع من الوعظ لا يعكس أيَّ عمل “تفسيريٍّ” على الإطلاق. رغم أنَّ الرب قد وضع في كلمته خريطة أعمال، والواعظ هو وحده الذي يدري بهٰذه الحقيقة. ربما ينتهي الحال بالشعب وهم يقولون:  «يا لها من عظة رائعة!» بدلا من أن يقولوا:  «يا لها من فقرة كتابية رائعة!»

يا ليتنا نستمر في تشجيع الشعب على أن يسمعوا صوت الله وليس صوتنا نحن، وذٰلك بأن نُرجِعهم على الدوام للنص: «انظروا ما يقوله الله في عدد5»، بدلا من أن نقول:  «استمعوا جيدًا لما أقوله الآن.»

5) “عظة بدون المسيح”: العظة تَغفَل المُخَلِّص

وَبّخ يسوعُ الفريسيين قائلًا: ﴿فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ.﴾ (يوحنا5: 39-40) كم هو أمر مُحزِن أنه حتى نحن الذين أتينا للمسيح لتكون لنا حياة نجعل الشعب كله يدرس فقرة من كلمة الله ونرفض جعلهم يرون ما تقوله كلمة الله عن المسيح، فنُحَوِّل نصوص العهد القديم إلى عظات أخلاقية، بل ونعظ من الأناجيل نفسها عظات تخلو من المسيح أو من بشارة الإنجيل. تخيَّل كمَّ الهَوْل الذي سيصيبك إن استمعت لعظة من قصة بستان جَثْسَيْمَانِي، وكان محورها كيفية التعامل مع التوتر والضغط في حياتنا.

إنْ كانت كلمة الله تشبه العَجَلة الكبيرة، فمحورها سيكون هو المسيح، وعمود ارتكازها سيكون هو الإنجيل. لن نكون أمناء في وعظنا من أيَّة فقرة في كلمة الله دون أن نتحرك بدءًا من أطراف قضبان العجلة حتى نصل إلى محورها، وحتى ننقل ما تقوله الفقرة الكتابية عن المسيح وعلاقتها ببشارة الإنجيل. 

مُدَّعُون لا يرَونَ الشعب

6) “العظة القائمة على علم التفسير” يبقى النص بلا تطبيق حياتيٍّ

إنْ كانت “العظة التي لا أساس لها” تهمل النص تمامًا، “فالعظة القائمة على علم التفسير” تهمل الشعب تمامًا. بعض الوعظ الذي يدّعي أنه تفسيري يرفضه الناس حال كونه مملًّا وعديم التواصل… وهم مُحِقُّون! بإمكان الفرد أن يقرأ من كتب التفسير وحسب. كلُّ ما يُقال عن الفقرة الكتابية هو حق، لٰكنه ليس وعظًا على الإطلاق، بل هو مجرد محاضرة. قد نتعلم الكثير عن استخدام بولس لأسلوب الإضافة، لٰكننا لا نتعلم ما يكفي عن شخصية الله أو عن طبيعة قلب الإنسان. فهو لا يتعامل سوى مع عقول الشعب. بالتأكيد سيقوم الوعظ التفسيري الحقيقي بإنارة العقل أولًا ، لٰكنه سيُدفيء القلب ويحث الإرادة أيضًا.

إنَّ التلقِّي المستمر للوعظ القائم على علم التفسير، سيجعل الناس يشعرون أن الوعظ الذي يتناول الموضوعات هو فقط الذي يمكن تطبيقه على حياتهم، وسيصيغون لأنفسهم قراءة خاصة للكتاب المقدس، تزعُم فيه أنَّه بإمكاننا أن نقرأ كلمة الله بإخلاص ولا نرى تحدٍّ يقدمه لنا الكتاب لنعيشه، ونبقي كما نحن بلا تغيير.

7) “العظة التي ليست ذات صلة”: ينطبق النص على شعب آخَر

إنَّ الإكثار من الوعظ الذي يقذف بيوت الناس الآخرين الزجاجية بالحجارة، يُنتِج كبرياء لدى الشعب. فأحيانًا يتم تطبيق هدف النص الكتابي بطريقة تناسب غير المؤمنين فقط، مما يوحي أنَّ كلمة الله ليس لديها ما تقوله للكنيسة، وأحيانًا يتم تطبيقها على مشاكل نادرًا ما نراها في الشعب الذي يسمع هٰذه العظة، فينتفخ الشعب، وينتهي بهم الحال إلى نموذج الفريسي في المَثَل الذي قاله يسوع، فيشكروا الله لكونهم ليسوا كباقي الناس. ولا تكون استجابتهم هي التوبة والإيمان، بل: «يا ليت السيدة براون كانت تستمع لهٰذه العظة!» أو: «يجب أن تستمع الكنيسة الميثودستية في منطقتنا لهٰذه العظة.»

إنَّ هٰذا الوعظ سيجعل الشعب يزداد في البِرِّ الذاتيّ، لا التَّقْوَى.

8) “العظة الشخصية”: ينطبق النص على الواعظ فقط

من السهل أن يفكر الواعظ في تطبيق الفقرة الكتابية عليه هو فقط، ثم يعظ الشعبَ وكأن الشعب يعيش بالكامل في موقف الواعظ نفسه. بالنسبة لي من السهل أن أرى كيف تنطبق فقرة كتابية على رجل بريطانيٍّ أربعيني أبيض له زوجة وستة أطفال ويعمل راعيًا لكنيسة صغيرة في غرب لندن. قد يكون هٰذا رائعًا في وقت خلوتي، لٰكنه ليس مفيدًا كثيرًا لكنيستي، لأنه لا يوجد شخص آخَر له نفس أحوالي.

ما هي تطبيقات النص على المراهق وعلى الأم العزباء؟ على المرأة الأربعينية التي ترغب في الزواج؟ وعلى المهاجر؟ على العاطل عن العمل، والملحد الزائر، أو على المُسلِم؟ على الشعب ككل، وسائق الحافلة، أو الموظف، أو الطالب، أو ربة البيت؟

يمكن أن تقود العظة الشخصية إلى أن يعتقد الشعب أنَّ الكتاب المقدس ليس له صلة سوى بالمسيحي “المحترف” وأنَّ الاستخدام الوحيد الصالح لحياتهم هو أن يتفرغوا للعمل في الكنيسة أو في منظمة مسيحية أخرى. من الممكن أن يجعل هٰذا الشعبَ يؤلهون راعيهم ويدَعونه بشكل ما يعيش حياتهم المسيحية بالنيابة عنهم. إنها تحرم الشعب من رؤية كيف تنطبق كلمة الله على كلّ جانب من جوانب حياتهم الشخصية، وكيف ينقلونها لمَن يحيون حياة مغايرة لحياتهم.

9) “العظة الريائيَّة”: ينطبق النص على الجميع ما عدا الواعظ

إنَّ العكس المباشر “للعظة الشخصية” هي العظة التي يُنظَر فيها للواعظ على أنه الذي يُعَلِّم الكلمة، لٰكنه لا يقدم نموذجًا لمعنى أن يكون خاضعًا للكلمة.

هناك مَرَّات يحتاج فيها الواعظ لأن يقول: «أنت» لا: «نحن.» لٰكن الواعظ الذي يقول دائمًا: «أنت» ولا يقول أبدًا: «نحن» لا يقدم قدوة لكونه “راعٍ أجير” بينما هو في المقام الأول والأخير أحد الخراف، وعليه أن يستمع إلى صوت الراعي الأعظم، وعليه أن يعرفه ويتبعه، واضعًا ثقته في الراعي الأعظم لنوال حياته الأبدية وأمانه.

الواعظ الذي يعظ بهٰذه الطريقة يقترف الخطأ العكسي؛ ففي حالة الواعظ السابق نرى الشعب يفوضه أن يعيش حياتهم المسيحية بالنيابة عنهم،أما هنا فهو يفوضهم أن يعيشوا حياته المسيحية بالنيابة عنه. سيفترض أنَّ حياة التلمذة بالنسبة له محورها خدمته، وسينتهي به الحال إلى أن يعيش بعيدا جدا عن حياة التلميذ الخاضع لكلمة الله، بل سيكون شخصًا يضع الآخرين تحت سلطان كلمة الله التي يترفع هو عنها.

10) “العظة غير المتطابقة”: يتم تقديم تطبيق خاطئ لهدف النص، على الشعب المتواجد

أحيانًا تتم إساءة فهم فجوة التفسير بين الفقرة الأصليّة والشعب الحالي، حتى أنَّ التطبيقات الناتجة عن السياق الأصلي يتم نقلُها بصورة مباشرة إلى العصر الحالي بشكل خاطئ. لذا، إنْ لم يكن لدى الواعظ عقيدة سليمة فيما يخص العبادة الكتابية، فقد يقدم تطبيقًا خاطئًا للنصوص التي تتحدث عن الهيكل في العهد القديم، على مباني كنيسة العهد الجديد، عوضًا عن أن يرى إتمامها في المسيح وشعبه. قد يأخذ وُعَّاظُ إنجيل الرخاء وعودَ البركات الأرضية التي قدمها الله لإسرائيل في العهد القديم، ويطبقونها بسطحية على شعب الله في العهد الجديد.

مُدّعون لا يرون الله

غالبًا ما تشير فصول تعليم الوعظ إلى جانبان في الوعظ وهما “النص والشعب”. لٰكن على الواعظ المسيحي أن يُدرِك أنه وراء كلاهما يقف الإله الذي أوحى بالنص، والذي يعمل في الشعب.

11) “العظة عديمة الحماس”: يتم التكلم بهدف النص، وليس الوعظ به

من الممكن أن نجد واعظًا قد فهم الفقرة الكتابية تمام الفهم، وتكلم عن تطبيقاتها للشعب المتواجد بطرق صائبة وعميقة. لٰكن الواعظ يُلقي العظة وكأنه يقرأ دليل التليفونات. حين يقدم الواعظ كلمة الله، لا يشعر أنَّ الله نفسه يتواصل مع شعبه. حين يفشل هذا الواعظ في أن يرى أنَّ الله نفسه، من خلال كلمته، هو الذي يطالب شعبه، ويشجعهم، وينتهرهم، ويدربهم، ويحفزهم، ويشكلهم، وينقيهم من خلال تفعيل الروح القدس لكلمته، فعلى الأرجح لن تجد شغفًا، ولا خشوعًا، ولا وقارًا، ولا فرحًا واضحًا، ولا إحساسًا بدموع الأسى، بل مجرد كلمات.

12) “العظة عديمة القوة”: يتم الوعظ بهدف النص بدون صلاة

يتم تخصيص الكثير من الوقت لدراسة الفقرة الكتابية وتشكيل العظة، حتى أنه لا يخصص وقتًا للصلاة من أجل الفهم الصحيح، والتطبيق الصحيح.

إنَّ الواعظ الذي يعمل كثيرًا ويصلي قليلًا، يثق في نفسه كثيرًا وفي الرب قليلًا. ربما تكون هٰذه من أكبر التجارب التي يقع فيها الواعظ التفسيري، لأن من له تمييز في الشعب يمكنه أن يعرف التفسير الخاطئ أو يُميّز التطبيق غير الملائم. لٰكن الفارق الذي تُحدثه صلاة الواعظ في تأثير العظة لن يَعرفه إلّا الرب، في اليوم الذي ستنكشف فيه كل الأشياء. يجب أن يكون الرب والأبدية هما الأهم على الإطلاق لدى الواعظ حين يُصلي؛ في الواقع، يهتم الواعظ بأُفُق النص وأُفُق الشعب فقط، لأن الرب والأبدية من الأفق غير المرئية، لٰكن لهما أهمية غير محدودة.

الخلاصة

إنَّ الوعظ التفسيري مهم للغاية لصحة الكنيسة لأنه يسمح لمشورة الله بأكملها، أن تنطبق على كنيسة الله بجملتها. ليت الرب يؤهل وعاظًا لكلمته ليكون صوته مسموعًا ومطاعًا.

 

ملحوظة المحرر: هٰذا المقال هو نسخة – تمت مراجعتها والتوسع فيها – من مقال كتبه مايك منذ عدة سنوات.


هذه المقالة مُترجمة بالشراكة مع خدمة الحق يحرركم. قم بزيارة موقعهم الإلكتروني للمزيد من المصادر المُتمركزة حول الإنجيل.

المزيد المتعلق بـ : مقالات