الوعظ واللاهوت

أيُّها الرعاة، اعرفوا فكركم اللاهوتيَّ عن التقديس

مقالة
11.30.2022

لقد حُفرت في ذاكرتي اللحظة التي شعرت فيها بعدم كفاية فَهمي للتقديس. لقد حدث الأمر في اجتماع لمجموعة صغيرة، في أثناء مُناقشة العلاقة بين أفعالنا وعمل الروح القُدس في عمليَّة تقديسنا. ومثلما تسير هذه المُناقشات عادةً، كان الأشخاص يُشاركون عمَّا ساعدهم على النموِّ –أو على الأقلِّ ما تعلَّموه في الكنيسة عمَّا ينبغي أن يُساعدهم على النموِّ. كما تعرف، أشياء مثل قراءة الكتاب المُقدَّس، الصلاة، إلى آخره. في نفس الوقت، أكَّد الجميع بأمانة أنَّ الروح القدس هو من قام بعمليَّة التقديس. وأخيرًا، انفجرت امرأة صادقة قائلةً: “أنا لا أفهم، كيف يُمكنني أن أنمو كمسيحيَّة؟”

إليك خلفيَّة بسيطة عنها. لقد اتَّبعت هذه المرأة يسوع لأعوام عديدة، لكنَّها شعرت مؤخَّرًا بأنَّ نموَّها تعطَّل. كانت تقرأ الكتاب المُقدَّس، وتُصلِّي، وكانت تحضر إلى الكنيسة كلَّ يوم أحد، لكنَّها شعرت أيضًا بالمرارة تجاه الآخرين وقالت أمورًا نَدمت عليها. كانت ترى أنَّ خطاياها أحزنت الله. ولذلك، كانت تعرف أنَّها لن تستطيع الاسترخاء وتنتظر أن يُقدِّسها الله. لكنَّها بدأت أيضًا في إدراك أنَّ تقديسها لم يكن يتناسب بشكل مُباشر مع مجهوداتها. كانت تسعى جاهدةً، لكنَّها لم تستطع تحقيق أيِّ شيء. في بداية تلك الليلة كُنتُ قد شاركت أنَّه إن تعاملنا مع الانضباط الروحيِّ كالسبب المُباشر لتقديسنا فإنَّ التركيز حينها سينتقل من رسالة إنجيل المسيح ليُصبح علينا نحن، وهذا سيُعطِّل نموَّنا. ولاحظتُ أنَّه كان لهذا الأمر صداه داخلها، حتَّى إن كان قد أخافها.

لكنِّي لم أستطع أن أجيب عن أسئلتها لأنَّ فهْمي للخلاص كان مُجزَّأً. لم يكن لديَّ فهم واحد للخلاص، لذا كانت تتعارض العمليَّات الموجودة في الخلاص مثل التبرير والتقديس مع بعضها البعض. لقد جاوبتُ عن سؤالها بإجابة غير مُترابطة، وأخذت فترة أطول ممَّا يُمكن أن يعجب أيَّ أحد، وبعدها توقَّفنا لأخذ وجبة خفيفة. لا يوجد شيء مثل الكعك المُعبَّأة يُمكن أن ينزع فتيل التوتُّر الغريب.

مسؤوليَّة الراعي

لا أعتقد أنَّه على المسيحيِّ أن يكون قادرًا على التعبير بوضوح عن فكر لاهوتيٍّ من نحو التقديس لكي يكون مُقدَّسًا، مثلما لا تحتاج زوجتي وابنتي الرضيعة إلى فهم سيكولوجيَّة علاقة الأمِّ بطفلتها لتُكوِّنا تلك العلاقة. يُمكننا أن نتغذَّى على المسيح وننمو بشكل جيِّد، حتَّى وإن لم نفهم كيف يحدث ذلك النموُّ. وتماشيًا مع هذا التشبيه، ماذا لو حدث خطأٌ ما في علاقة الأمِّ بطفلتها؟ أتمنَّى أن يفهم شخص ما الموضوع بشكل كافٍ لكي يُساعدهم.

ولهذا السبب يحتاج الرُعاة إلى معرفة فكرهم اللاهوتيِّ عن التقديس. ربَّما تقول: “أليست هذه مُهمَّة المُشير الكتابيِّ؟” نعم. لكن على الرعاة –وأنا أقصد بالتحديد أولئك الذين يؤدُّون مهمَّة الوعظ والتعليم– مسؤوليَّة الوعظ بفكر لاهوتيٍّ صحيح من نحو التقديس حتَّى يقودوا رعيَّتهم في الاتِّجاه الصحيح. فكِّر بخصوص هذا الأمر، إن لم تكُن تعِظ بتوجُّه يهتمُّ بتقديس رعيَّتك، فما الذي تفعله؟ بالطبع أنت لا تريد أن تُثقِّفهم فقط، أو الأسوأ أن تُسلِّيهم، بل تُريد أن تغيِّر رعيَّتك. لكن هل لديك نموذج لكيْف يحدث ذلك؟ إن كانت إجابتك لا، فكيف تعرف إذا كنت تقودهم في الاتِّجاه الصحيح؟

كيف نُخطئ كثيرًا

إنَّ الأخطار التي تُخرج التقديس عن مساره هي الاستباحة والناموسيَّة. ترى الناموسيَّة التقديس على أنَّه عمل أقوم به. ربَّما أقوم بأعمال ما لأحصُل على خلاصي. أو ربَّما أفعلهم لأكتسب المزيد من النعمة أمام الله. أُفكِّر قائلاً: “إن توقَّفتُ عن عمل هذا الأمر، أو بدأت في القيام بذلك الأمر، سأكون جيِّدًا”. هذه هي الناموسيَّة، لأنَّها الطاعة من أجل علاقة مع الله بدلاً من أن تنبُع الطاعة من علاقة مع الله.

الخطأ الآخر هو الاستباحة. والذين يتبنَّون هذا التوجُّه يُسمَّون “لا ناموسيِّين” (antinomians: anti-ضدَّ؛ nomas-ناموس). يبدو أنَّه من فرْط التركيز على ما حَقَّقه المسيح بالفعل لا توجد مساحة لدوْرنا نحن. يرى اللا ناموسيُّون الفشل الرهيب الذي ينتُج عندما يُساء توجيه مجهوداتنا ويستنتجون خطأً أنَّه ينبغي أن نتوقَّف عن بذل أيِّ مجهود.

لنُفكِّر فيما يحدث في ظلِّ غياب نموذج واضح للتقديس. يُمكن أن نكون مُشجِّعين للآخرين لأن يحاربوا ناموسيَّتهم عن طريق استباحتهم وأن يحاربوا استباحتهم عن طريق ناموسيَّتهم. أذكُر مجموعة من طلبة الكلِّيَّة الذين أرادوا أن أتوقَّف عن الحديث عن رسالة الإنجيل لأنَّهم كانوا خائفين من أنَّه سيكبح من دافعهم للقداسة. وأعرف أشخاصًا آخرين والذين إن كانوا صادقين، فإنَّهم مُرتاحون لحقيقة أنَّهم يقعون في الخطيَّة، لأنَّ هذا يثبت أنَّهم لم يصبحوا ناموسيِّين. لكنَّ هذا ليس هو التقديس الكتابيَّ، ويجب علينا ألاَّ نُشجِّع هذا النوع من التفكير.

إنَّ الترويج للتقديس المُزيَّف لَهو أسهل ممَّا تظُنُّ. لقد سمعت رعاة صالحين أثَّروا على رعيَّتهم بخصوص كلِّ شيء ينبغي فعله، لكنَّهم لا يقولون أيَّ شيء عن القوَّة اللازمة لتنفيذ ذلك. لقد سمعت عظات فيها تنفصل النعمة كثيرًا عن حياة القداسة التي يتساءل بولس عنها: “أَنَبْقَى فِي الْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ النِّعْمَةُ؟” والتي يبدو أنَّ الإجابة عليها ستكون بالإيجاب. يتمُّ تصحيح تلك المشكلات عن طريق الوعظ الذي يرى المسيح في مركز كلِّ مقطع كتابيٍّ. لكنَّنا نحتاج إلى فهم لاهوتيٍّ من نحو التقديس لكي نكون قادرين على أخذ خطوة واحدة أبعد من هذا ونسأل: “عندما نأتي للمسيح، كيف نَلْبَس الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ نصنَع تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ؟”

أنا لا أقول إنَّ كلَّ عظة تحتاج إلى حديث طويل عن عقيدة التقديس. ربَّما تظهر في إحدى العبارات بعدما وصلنا إلى الحديث عن المسيح. أو ربَّما يظهر الأمر فيما ستقوله للشخص المُنزعج أو المُتعجرف الذي يَقِف عند الباب. ما أقصده هو إذا كانت “البسوا المسيح” و”اطلبوا ما هو فوق” وصايا أساسيَّة ومُرتبطة بالتقديس، فإذًا ينبغي أن نعرف ماذا يعني أن نُطيع تلك الوصايا، وينبغي أن يكون هذا الأمر واضحًا في وَعظنا.

التقديس في المسيح

لذلك، يجب أن يستطيع الفكر الكتابيُّ المقنع عن التقديس أن يؤكِّد الحاجة إلى النموِّ من دون التقليل من النعمة. ويجب عليه أن يؤكِّد النعمة من دون التقليل من الحاجة إلى النموِّ.

كيف يُمكننا تحقيق ذلك؟ سأقدِّم تصوُّرًا مُختصرًا. إنَّ الهدف الحقيقيَّ من هذه المقالة هو جَعلك تدرس عن التقديس. الخطوة الأولى هي أن ترى أنَّ التقديس مُتَّصلٌ بالخلاص. نحتاج إلى التوقُّف عن التحدُّث عن “مُخلَّص” و”مُقدَّس” كما لو كانا شيئين مُختلفين ولا يُمكن استخدامهم بالتبادل. ينبغي أن نكون نتوقَّف عن اقتباس أفسس ٢: ٨-٩: “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، لَيْسَ مِنْ أَعْمَال”، من دون اقتباس الآية ١٠ أيضًا: “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ”. يتضمَّن الخلاصُ القداسةَ –لا كشرط للخلاص، بل كجُزء منه. انتبه، لا يحتوي الكتاب المُقدَّس على هذا التوتُّر بين النعمة المجَّانيَّة والأعمال الصالحة.

لمَ لا؟

سأنتقل من ذلك السؤال إلى النقطة العامَّة الثانية وهي أنَّ الخلاص هو الاتِّحاد بالمسيح. للأسف، عادةً ما نُفكِّر في الخلاص على أنَّه باقة كبيرة من العطايا أو الهدايا المُغلَّفة بشكل فرديٍّ. توجد عطيَّة “الغفران” و”الروح القدس” و”الفداء”، ذلك على سبيل المثال لا الحصر. إنَّ المشكلة في هذا الفكر هو النظر إلى كلِّ عطيَّة على أنَّها مُوجودة بشكل مُستقلٍّ، وتصارُع التركيز المُفرط على أحد العطايا ضدَّ التركيز المُفرط على عطيَّة أخرى. فمثلاً، إذا كنتُ أتمتَّعُ بعطيَّة الغفران العظيمة، هل أحتاج إلى أن أفتح الهديَّة المكتوب عليها “التقديس”؟ أو، إذا كنتُ مُستفيدًا من “التقديس”، هل يجب عليَّ أن أتمسَّك بهديَّة “البرُّ المُحتَسَب”؟

في الحقيقة، إنَّ الخلاص هو قبول المسيح، الذي صار لنا كلَّ شيء نحتاجه لنخلُص. “وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً” (١ كورنثوس ١: ٣٠). ولأنَّ كلَّ عطيَّة تأتي عن طريق قبول المسيح، فلذلك تتلاءم معًا كلُّ العطايا. نحن نَقبل غفران الخطايا والبرَّ المُحتَسَب لا لنجلس ونستريح، بل لنقترب من المسيح ونجد عونًا لنعيش حياتنا في القداسة. وعندما نحيا في القداسة، لا نتجاهل أنَّنا تَبرَّرنا؛ بل نُصبح مُعجَبين بقداسة الله للدرجة التي بها يصير لدينا تقدير أكبر لبرِّ المسيح المُحتَسَب لنا، الذي هو موقفنا القضائيُّ أمام الله. يربُط الروح القدس حياة المؤمن معًا؛ الروح الذي أقام المسيح من الموت “لتبريرنا” (رومية ٤: ٢٥) هو نفسه الذي يوحِّدنا بالمسيح، ويملأنا بالثمر، ويشفع فينا أمام الله.

بكلمات أخرى، من ناحية ما، يأخذنا خلاصنا بشكل لا مفرَّ منه وبشكل أعمق إلى شخص المسيح واتِّحادنا الروحيِّ به، والذي يربُطنا أيضًا بكلِّ البركات التي لنا فيه. نحن مُبارَكون بكلِّ بركة روحيَّة في المسيح. عندما ننظر إلى خلاصنا على أنَّه باقة عرض، لا نستطيع ببساطة اختيار عطيَّة على الأخرى. وبالتبعية، لن نُحارب ناموسيَّتنا بواسطة استباحتنا. سنُحارب كلاًّ من الناموسيَّة والاستباحة بالمسيح.

ادرس عن التقديس!

أنا ممتنٌّ لسؤال المرأة لأنَّه دفعني إلى الدراسة عن التقديس. لا يهمُّ كم فَهِمنا من هذا الحقِّ، إذ سيظلُّ يوجد المزيد لِنَفهمه، وتوجد أمور غير محدودة نحتاج أن نختبرها. لكن سيُساعدنا وجود نموذج أساسيٍّ للتقديس –ما دام كتابيًّا– على قيادة الناس إلى حياة أعمق في المسيح، ومن ثمَّ إلى حياة أعمق في القداسة.

يوجد دافع في الدوائر الإنجيليَّة لفهْم التبرير. هذا أمرٌ جيِّد. لكن لنتأكَّد أنَّنا لم نتجاهل التقديس.

المزيد المتعلق بـ : مقالات