الوعظ واللاهوت

اللاهوت الكتابيُّ وأزمة الجنس

مقالة
11.30.2022

يَختبر المُجتمع الغربيُّ حاليًّا ما يُمكن وَصْفه بثَورة أخلاقيَّة. لقد مَرَّ قانون مُجتمعنا الأدبيُّ وتقييمنا الجَمعيُّ الأخلاقيُّ بخصوص قضيَّة واحدة بتغيُّرات ليست بصغيرة، بل كانت ارتدادًا كاملاً. ما كان يومًا ما مُدانًا، يُحتفَل به الآن، ورَفضُ الاحتفال هو ما يتمُّ إدانته اليوم.

ما يجعل الثورة الأخلاقيَّة والجنسيَّة الحاليَّة مُختلفة كثيرًا عن الثورة الأخلاقيَّة السابقة هو أنَّها تَحدُث بسرعة غير مسبوقة حرفيًّا. لقد اختبرت الأجيال السابقة الثورات الأخلاقيَّة على مَرِّ عقود، أو حتَّى قرون. تَحدُث هذه الثورة الحاليَّة بسُرعة هائلة.

بينما تستجيب الكنيسة لهذه الثورة، ينبغي أن نتذكَّر أنَّ المُناقشات الحاليَّة بخصوص الجنس تُقدِّم للكنيسة أزمةً لاهوتيَّةً بشكل لا يُمكن اختزاله أو الهروب منه. تُعَدُّ هذه الأزمة من نفس نوع الأزمات اللاهوتيَّة التي قدَّمتها الغنوصيَّة للكنيسة المُبكِّرة أو التي قدَّمتها البلاجيَّة للكنيسة في أيَّام أوغسطينوس. بكلمات أخرى، تتحدَّى أزمة الجنس فَهْم الكنيسة لرسالة الإنجيل والخطيَّة والخلاص والتقديس. يُطالب دُعاة الجنسانيَّة الحديثة بإعادة كتابة كاملة للقصَّة الكُبرى في النصوص المُقدَّسة، وإعادة ترتيب للفكر اللاهوتيِّ، وتغيير جوهريٍّ للطريقة التي نُفكِّر بها بخصوص خدمة الكنيسة.

هل “التحوُّل الجنسيُّ” موجود في فهرس الكتاب المُقدَّس؟

إنَّ الاحتكام للنصِّ هو أوَّل ردِّ فعل للبروتستانت المُحافظين الذين يبحثون عن استراتيجيَّة تأتي من استعادة الفكر اللاهوتيِّ وإعادة صياغته. ينبُع ردُّ الفعل التفسيريُّ من المسيحيِّين الإنجيليِّين بشكل طبيعيٍّ، لأنَّنا نؤمن بأنَّ الكتاب المُقدَّس هو كلمة الله المعصومة من الخطأ. نحن نفهم أنَّه، كما قال ب. ب. وارفيلد: “عندما يتحدَّث الكتاب المُقدَّس فإنَّ الله يتحدَّث”. ينبغي أن أوضِّح أنَّ ردَّ الفعل هذا ليس مُخطئًا بالكامل، لكنَّه ليس صحيحًا بالكامل. ليس مُخطئًا بالكامل لأنَّ نصوصًا مُعيَّنة (أي “النصوص التي يُحتكَم إليها”) تتحدَّث عن قضايا مُحدَّدة بطريقة مُباشرة ويُمكن تمييزها.

لكن هناك محدوديَّة واضحة لهذه الطريقة اللاهوتيَّة – وهو ما أُسمِّيه “ردُّ فعل فهرس الكتاب المُقدَّس”. ما الذي يحدُث عندما تُصارع مع قضيَّة لاهوتيَّة ولا تَجد لها كلمة تُقابلها في الفهرس؟ لا يُمكن اختزال العديد من أهمِّ القضايا اللاهوتيَّة فقط إلى إيجاد الكلمات المُتَّصلة بالموضوع والآيات المُقابلة لها في فهرس الكتاب المُقدَّس. جرِّب البحث عن “التحوُّل الجنسيُّ” في فهرس كتابك المُقدَّس. ماذا عن “سحاقيَّة”؟ أو “طفل الأنابيب”؟ بالتأكيد، ليست هذه الكلمات موجودة في نهاية[1] كتابي المُقدَّس.

الأمر ليس أنَّ الكتاب المُقدَّس غير كافٍ. إنَّ المشكلة ليست فَشَلاً من جهة الكتاب المُقدَّس بل هي فَشَلٌ في مَنهجنا في التعامل مع الكتاب المُقدَّس. يُنتج مَنهج فهرس الكتاب المُقدَّس كتابًا مُسطَّحًا دون سياق، أو عهد، أو قصَّة رئيسيَّة – وهي ثلاث أساسات تفسيريَّة ضروريَّة لفَهْم الكتاب المُقدَّس بشَكل صحيح.

لاهوت كتابيٌّ عن الجسد

إنَّ اللاهوت الكتابيَّ لا غنى عنه للكنيسة لتصيغ تجاوبًا مُناسبًا لأزمة الجنس الحاليَّة. يجب على الكنيسة أن تتعلَّم أن تقرأ الكتاب المُقدَّس وُفقًا لسياقه، في إطار قصَّته الكُبرى، كما أُعلنَ تدريجيًّا في العهود الكتابيَّة. يجب أن نتعلَّم أن نُفسِّر كلَّ قضيَّة لاهوتيَّة من خلال قصص الكتاب المُقدَّس الكُبرى عن الخلق والسقوط والفداء والخليقة الجديدة. بالتحديد، يحتاج الإنجيليُّون إلى فكر لاهوتيٍّ عن الجسد والذي يرتكز على كشف الكتاب المُقدَّس عن قصَّة الفداء.

الخليقة

يُشير تكوين ١: ٢٦-٢٨ إلى أنَّ الله خلق الإنسان –بشكل مختلف عن باقي الخليقة– على صورته. أيضًا يُوضِّح هذا المقطع أنَّ الله قصد أن يكون للبشر وجودٌ مُتجسِّد. يُلقي تكوين ٢: ٧ الضوء على هذه النقطة أيضًا. خلق اللهُ الإنسانَ من التُراب ثُمَّ نفخ في أنفه نسمة الحياة. يُشير هذا إلى أنَّنا كُنَّا أجسادًا قبل أن نصبح أشخاصًا. والجسد، كما سيتَّضح، ليس عارضًا لشخصيَّتنا. أُعطيَ آدم وحوَّاء التكليف بأن يُكثرا ويُخضعا الأرض. تُمكِّنهم أجسادهم بواسطة خلق الله لهم وخطَّته السياديَّة من تحقيق مُهمَّة أن يكونا على صورة الله.

تقترح أيضًا قصَّة التكوين أنَّ الجسد له احتياجات. يجوع آدم، لذا أعطاه الله ثمر شجر الجنَّة. تُعدُّ هذه الاحتياجات تعبيرًا مغروسًا في الخليقة عن كوْن آدم محدودًا وغير مُستقلٍّ ووجوده مُستمَدٌّ من آخر.

والأكثر من ذلك، لدى آدم احتياج إلى الرفقة، لذا أعطاه الله زوجةً، أي حوَّاء. كان على آدم وحوَّاء تتميم التكليف بأن يُكثرا ويملئا الأرض بأشخاص على صورة الله عن طريق استخدام سليم لقدرة أجسادهما على التكاثر والتي كانت لديهما منذ خلقهما الله. يقترن التمتُّع الجسديُّ بتلك القدرة والذي سيختبره الاثنان عندما يُصبح الاثنان جسدًا واحدًا، أي جسمًا واحدًا.

تُظهر أيضًا قصَّة التكوين أنَّ النوع هو جزءٌ من صلاح خليقة الله. لا يُعتبر النوع مجرَّد بناء اجتماعيٍّ يُفرَض على البشر الذين يُمكنهم بدلاً من ذلك أن يتفاوضوا على أيِّ عدد من البدائل.

لكنَّ سفر التكوين يُعلِّمنا أنَّ الله خلق النوع لخيْرنا ولمجده. قَصد الله للنوع أن يكون من أجل ازدهار الإنسان وتمَّ تحديده بواسطة قرار الخالق، مثلما حدَّد بنفسه متى وأين نُوجَد، وأن نوجد من الأساس.

باختصار، خلق الله صورته (الإنسان) كشخص مُتجسِّد. وكأجساد، أُعطينا عطيَّة الجنس ووكالته من الله نفسه. لقد صُمِّمنا بطريقة تشهد عن قصد الله في هذا الأمر.

يُصوِّر أيضًا سفر التكوين هذه المُناقشة من منظور عهديٍّ. إنَّ قُدرة الإنسان على التكاثُر ليست فقط بهدف نشر العرق. لكن، يُشير التكاثر إلى حقيقة أنَّه كان على آدم وحواء أن يُكثروا لكي يملئوا الأرض بمجد الله الذي ينعكس من البشر المخلوقين صورته.

السقوط

أدَّى السقوط، وهو ثاني مرحلة في تاريخ الفداء، إلى إفساد الجسد الذي هو عطيَّة الله الصالحة. أحضر دخول الخطيَّة الموتَ إلى الجسد. وفي ما يتعلَّق بالجنس، أدَّى السقوط إلى إفساد خطَّة الله من نحو التكامل الجنسيِّ للبشر. أصبحت رغبة حوَّاء هي أن تُسيطر على زوجها (تكوين ٣: ١٦). صارت قيادة آدم قاسية (تكوين ٣: ١٧-١٩). ستختبر حوَّاء الآلام في أثناء الولادة.

توضِّح القصص التي جاءت بعد السقوط تطوُّر الممارسات الجنسيَّة الضالَّة، من تعدُّد الزوجات إلى الاغتصاب، وهي ممارسات يُناقشها الكتاب المُقدَّس بصراحة ملحوظة. يأتي بعد هذه القصص من سفر التكوين إعطاءُ الناموس والذي قُصد به أن يكبح جماح الممارسات الجنسيَّة البغيضة. يقوم الناموس بتنظيم الحياة الجنسيَّة والتعبير عن النوع، ويُعطي تصريحات واضحة بخصوص الأخلاقيَّات الجنسيَّة، ارتداء زيِّ الجنس الأخر، الزواج، الطلاق، ومجموعة من الموضوعات الجسديَّة والجنسيَّة.

يربُط العهد القديم أيضًا الجنس بعبادة الأصنام. تَظهر طقوس العبادة المرتبطة بالعربدة والدعارة الموجودة في الهياكل الوثنيَّة، وتشوُّهات أخرى رهيبة للجسد الذي هو عطيَّة الله، في كلِّ جزء وقطعة من عبادة الأصنام. يصنع بولس الرابط نفسه في رومية ١ عن الذين “أَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ” (رومية ١: ٢٣). “الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ” (رومية ١: ٢٥). استبدلَ الرجال علاقاتهم الطبيعية مع النساء وكذلك فعلت النساء (رومية ١: ٢٦-٢٧).

الفداء

في ما يتعلَّق بالفداء، يجب أن نُلاحظ أنَّ واحدًا من أهمِّ جوانب فدائنا هو أنَّ الفداء أتى عن طريق مُخلِّص له جسد. “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يوحنَّا ١: ١٤؛ راجع فيلبِّي ٢: ٥-١١). تمَّ تحقيق فداء البشريَّة عن طريق ابن الله المُتجسِّد، والذي يبقى مُتجسِّدًا إلى الأبد.

يُشير بولس إلى أنَّ الخلاص لا يتضمَّن فقط أرواحنا بل يتضمَّن أجسادنا أيضًا. يتحدَّث النصُّ الموجود في رومية ٦: ١٢ عن الخطيَّة التي تَملُك في “جَسدكم المائت” – ممَّا يوحي بالرجاء في فداء جسديٍّ مُستقبليٍّ. يُشير النصُّ الموجود في رومية ٨: ٢٣ إلى أنَّ جزءًا من رجائنا الاسخاتولوجي هو “فداء أجسادنا”. وحتَّى حاليًّا، في حياة القداسة التي نعيشها نَحن مأمورون بتقديم أجسادنا كذبيحة حيَّة لله في العبادة (رومية ١٢: ١). والأكثر من هذا، يصِف بولس الجسد الذي تمَّ فداؤه بأنَّه مثل هيكل للروح القدس (١ كورنثوس ٦: ١٩) وبوضوح يجب علينا أن نفهم أنَّ للتقديس تأثيرات على الجسد.

تقوم الأخلاق التي تَختصُّ بالجنس في العهد الجديد كما في العهد القديم بضبط التعبيرات التي نستخدمها عن النوع والجنسانيَّة. قام يسوع والرُسل بإدانة الـ “بورنيا”، وهي الانحلال الأخلاقيُّ من أيِّ نوع. كذلك يُشير بولس للكنيسة في كورنثوس بوضوح أنَّ الزنا –والخطايا المُرتكَبة في الجسد (١ كورنثوس ٦: ١٨)– تُشوِّه سُمعة الكنيسة لأنَّها تُعلن للعالم أنَّه لا يوجد تأثير لرسالة الإنجيل.

خليقة جديدة

أخيرًا، نأتي إلى الفعل الرابع والأخير في قصَّة الفداء؛ أي الخليقة الجديدة. في ١ كورنثوس ١٥: ٤٢-٥٧، لا يوجِّهنا بولس فقط نحو قيامة أجسادنا في الخليقة الجديدة، بل أيضًا إلى حقيقة أنَّ قيامة المسيح بالجسد هي الوعد والقوَّة لرجاء مستقبليٍّ. ستكون قيامتنا اختبارًا للمجد الأبديِّ في أجسادنا. سيكون هذ الجسد مُتغيِّرًا وتحقيقًا مُكتملاً لوجودنا المُتجسِّد بنفس الطريقة التي فيها جسد يسوع هو جسده الذي كان به على الأرض، لكنَّه جسد مُمجَّد.

لن تكون الخليقة الجديدة ببساطة إعادة ضبط للجنَّة. ستكون أفضل من عدن، مثلما لاحظ كالفن، لا نعرف الله في الخليقة الجديدة كخالق فقط بل كفادٍ أيضًا – وذلك الفداء يتضمَّن أجسادنا. سنَملُك مع المسيح في هيئة جسديَّة، مثلما هو أيضًا السيِّد الكونيُّ المُتجسِّد والذي يحكُم.

في ما يتعلَّق بالجنس، بينما سيبقى النوع في الخليقة الجديدة، لكنَّ النشاط الجنسيَّ لن يستمرَّ. لا بسبب أنَّه يتمُّ إبطال الجنس في القيامة، لكنَّه سيتمُّ استيفاؤه. سيأتي عشاء عُرس الحمل الاسخاتولوجي، والذي يُشير إليه الزواج والجنس. لن يكون هناك أيُّ احتياج بعد إلى ملء الأرض ببشر مخلوقين على صورة الله مثلما كان الموقف في تكوين ١. لكنَّ بدلاً من ذلك، سَيتمُّ ملء الأرض بمعرفة مجد الله مثلما تُغطِّي المياه البحر.

ضرورة اللاهوت الكتابيِّ

لقد أظهرت أزمة الجنس فشل المنهج اللاهوتيِّ لعديد من الرُعاة. ببساطة، لا يستطيع “ردُّ فعل فهرس الكتاب المُقدَّس” أن يُحقِّق نوع التفكير اللاهوتيِّ الدقيق المطلوب في المنابر حاليًّا. يجب أن يتعلَّم الرعاة والكنائس ضرورة اللاهوت الكتابيِّ ويجب أن يمارسوا قراءة الكتاب المُقدَّس وفقًا للمنطق الداخليِّ للاَّهوت الكتابيِّ – وهو منطق قصَّة تتحرَّك من الخليقة إلى الخليقة الجديدة. إنَّ المُهمَّة التفسيريَّة التي أمامنا كبيرة، لكن لا يُمكن الاستغناء عنها أيضًا لتفاعل إنجيليٍّ أمين مع الثقافة.


[1] حيث تُضيف بعض إصدارات الكتاب المُقدَّس فهرسًا للكلمات الصعبة. (المُترجِم)

المزيد المتعلق بـ : مقالات