الوعظ واللاهوت

اللاهوت الكتابي والعبادة الجماعيَّة

مقالة
11.28.2022

ماذا نفعل بالضبط عندما نجتمع ككنائس للعبادة؟ وكيف نعلم ما ينبغي علينا فِعْله خلال تلك الاجتماعات الأسبوعيَّة؟

يلجأ المسيحيُّون الإنجيليُّون بطبيعة الحال إلى الكتاب المقدَّس للحصول على الإرشاد فيما يتعلَّق بهذه الأسئلة، ولكن أين ننظر في الكتاب المقدس؟ لدينا قدرٌ وافِرٌ من الكلام في العهد القديم عن العبادة، كلام عن الصلوات وعن الذبائح وعن الفِرَق الموسيقيَّة وعن الصنوج وعن أشياء أخرى كثيرة، ولكن هل تنطبق كُلُّ هذه المادة فعليًّا على اجتماعات مؤمني العهد الجديد الذي قطعه المسيح؟

ما نحتاج إليه للإجابة على هذه الأسئلة هو لاهوت كتابي خاص بالعبادة.[1] إنَّ علم اللاهوت الكتابي هو العلم الذي يساعدنا على تَتَبُّع كلٍّ من الوحدة والتنوع، المستمر وغير المستمر (المقصود: فيما يتعلق بالعلاقة بين العهدَيْنِ، القديم والجديد – المترجم) داخل قصة الكتاب المقدس المترامية الأطراف.

سأُجْمِلُ في هذا المقال بمنتهى الإيجاز لاهوتًا كتابيًّا خاصًّا بالعبادة الجماعيَّة، وسنصل إلى ذلك من خلال أربع خطوات: (١) العبادة الجماعيَّة في العهد القديم؛ (٢) الإتمام في المسيح؛ (٣) العبادة الجماعيَّة في العهد الجديد؛ (٤) قراءة الكتاب المقدَّس بأكمله لكي نعلم ماذا ينبغي علينا أن نفعل في العبادة الجماعيَّة.

١. العبادة الجماعيَّة في العهد القديم

منذ أن نفى الله شعبَه من محضره بعد السقوط في تكوين ٣ والله يعمل على جمعهم مرة أخرى إلى نفسه؛[2] لذا عندما قاسى شعب إسرائيل العبوديَّة في أرض مصر أنقذهم الله؛ ليس فقط كي يتحرَّروا من الظلم والاضطهاد بل كي يعبدوه في محضره (خروج ٣: ١٢، ١٨). لقد أخرج الله شعبه من أرض مصر وجاء بهم إلى مسكنه (خروج ١٥: ١٣، ١٧).

أين هذا المسكن؟ كان هذا المسكن في البداية هو خيمة الاجتماع، تلك الخيمة ذات التفاصيل المُعَقَّدة والمُصَمَّمة بإحكامٍ شديد التي يُقَدِّم فيها الكهنة الذبائح لأجل خطايا الشعب ونجاساتهم، فنقرأ في سفر الخروج ٢٩: ٤٤–٤٦:

وَأُقَدِّسُ خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ وَالْمَذْبَحَ، وَهَارُونُ وَبَنُوهُ أُقَدِّسُهُمْ لِكَيْ يَكْهَنُوا لِي. وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لأَسْكُنَ فِي وَسْطِهِمْ. أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمْ.

كان الهدف من الخروج هو أن يسكن الله في وسط شعبه، ويفعل الله ذلك عن طريق المكان المقدَّس (خيمة الاجتماع)، وأشخاص (الكهنوت) عَيَّنهم لهذا الغرض.

عندما أخرج الله إسرائيل من أرض مصر أخذهم لنفسه شعبًا، والطريقة التي أكَّد بها الله هذه العلاقة الجديدة مع شعب إسرائيل هي أنَّه قطع عهدًا معهم، والذي غالبًا ما يُطلَق عليه “العهد الموسوي”، وفي خروج ١٩ يُذَكِّر الربُّ الشعب بما فعله لأجلهم عندما أنقذهم من أرض مصر، ثم يَعِدهم بأنَّهم إذا أطاعوا بنود عهده يكونون له خَاصَّةً (خروج ١٩: ١–٦).

أكَّد الرب هذا العهد مع الشعب في خروج ٢٤، وتُجَسِّد جميع القوانين الواردة في أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية بنود هذا العهد. تُحَدِّد كل هذه التفاصيل كيف يجب أن يعيش شعب الله مع الله ومع بعضهم البعض في إطار هذا العهد المحدد الذي قطعه الله معهم.

لذا فإنَّ الذبائح وطقوس التطهير الموصوفة تفصيليًّا في سفر اللاويين هي وسيلة إصلاح الانتهاكات التي تحدث في شَرِكَة العهد؛ فالعبادة (ممارساتها) تحافظ على العهد.

لحَفْنةٍ من المرات في السنة أمر الرب جميع الإسرائيليِّين بأن يجتمعوا معًا للمثول أمامه في خيمة الاجتماع، وذلك في أعياد الفصح والباكورة وغيرها (لاويين ٢٣)، أمَّا بعيدًا عن هذه الأعياد فكان تقديم الذبائح بانتظام هو مهمة الكهنة، ولم يأتِ أَحَدٌ من الشعب إلى خيمة الاجتماع (والهيكل لاحقًا) إلَّا عندما يحتاج إلى تقديم ذبيحة محددة عن الخطيَّة أو النجاسة.

وبعبارةٍ أخرى، كانت العبادة الجماعيَّة بالنسبة لشعب إسرائيل مناسبةً خاصة تحدث لعدد قليل من المرات سنويًّا. كانت العبادة بمفهوم التكريس الحصري للرب شيئًا دُعِي الإسرائيليُّون لممارسته على مدار الساعة (تثنية ٦: ١٣–١٥)، لكن العبادة بمعنى امتلاك الحق في الدخول الحميم إلى محضر الله كانت محصورة في أشخاص محددين وأماكن محددة وأوقات محددة. نعم، سكن الله في وسط شعبه، ولكنَّ هذا الحضور كان محصورًا في خيمة الاجتماع ومحروسًا من قِبَل الكهنة.

٢. الإتمام في المسيح

يُمَثِّل تجسُّد الله الابن، ربنا يسوع المسيح، نقطة التحول في قصة الكتاب المقدَّس؛ فجميع مواعيد الله تتم فيه (٢ كورنثوس ١: ٢٠)، وجميع أمثلة[3] العهد القديم (أنظمة ومؤسسات الكهنوت والهيكل والمُلك، وأحداث الخروج والسبي والرجوع من السبي) تجد اكتمالها فيه؛ لذا لكي نفهم لاهوت العبادة الموجود في كامل الكتاب المقدَّس علينا أن نفهم أولًا كيف يُتَمِّم الرب يسوع عبادة العهد الموسوي ويُغَيِّر هيئتها.

كانت خيمة الاجتماع، والهيكل لاحقًا، هما المكانان حيث أظهر الله حضوره في وسط شعبه، ويُمَثِّل الرب يسوع الإتمام والاكتمال لهذه الأبنية التي تنتمي للعهد المقطوع قديمًا، وعلى هذا الأساس يَحِلُّ محلَّها. يُخبِرنا يوحنا أنَّ الْكَلِمَةَ صَارَ جَسَدًا وَ-حرفيًّا- خَيَّمَ بَيْنَنَا (يوحنا ١: ١٤)، ووَعَدَ الرب يسوع قائلًا: «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا ٢: ١٩)، وبعبارةٍ أخرى، إنَّ جسد يسوع هو الهيكل الآن، هو المكان حيث يُقابِل الله شعبه، ويُظهِر حضوره، ويتعامل مع خطيتهم (يوحنا ٢: ٢١–٢٢). لهذا السبب يستطيع الرب يسوع أن يقول إنَّه تَأْتِي سَاعَةٌ حِينَ لن يحتاج السَّاجِدُونَ (العابدون) الْحَقِيقِيُّونَ فيما بعد أن يسجدوا (يعبدوا) فِي أُورُشَلِيمَ، وَلكِنْ سيَسْجُدُونَ (يعبدون) بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ (يوحنا ٤: ٢١–٢٤).

يُمَثِّل الرب يسوع الإتمام والاكتمال لهيكل أورشليم الأرضي، ويَحِلُّ محلَّه؛ فالآن هو “المكان” حيث يعبد العابدون الحقيقيُّون الله.[4]

يُتَمِّم الرب يسوع أيضًا كامل نظام الذبائح المرتبط بالعهد الموسوي وخيمته وهيكله، ويَحِلُّ أيضًا محلَّه. تُخبِرنا رسالة العبرانيِّين أنَّ الرب يسوع، بخلاف الكهنة الذين كان عليهم تقديم ذبائح يوميَّة، قد كَفَّر عن خطايا الشعب “مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ (حِينَ) قَدَّمَ نَفْسَهُ” (عبرانيِّين ٧: ٢٧)، هذا بالإضافة إلى أنَّ تقديم يسوع نَفْسه مرةً واحدةً لا يُطَهِّر الجسد فحسب مثل ذبائح العهد المقطوع قديمًا، ولكنَّه بدلًا من ذلك يُطَهِّر ضمائرنا مُجَدِّدًا إيانا من الداخل (عبرانيِّين ٩: ١٣–١٤)، ولأَنَّ الرب يسوع قَدْ أَكْمَلَ شعبه بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ؛ لم تَعُدْ هناك حاجةٌ أو مكانٌ لتقديم ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ (عبرانيِّين ١٠: ١–٤، ١٠، ١١–١٨).

يُتَمِّم الرب يسوع نظام الذبائح اللاوي ويَحِلُّ محلَّه؛ حيث يضمن دمُه الآن فداءنا الأبدي (عبرانيِّين ٩: ١٢).

يمكنني الاستمرار على هذا المنوال، فالموضوع هو أنَّ عمل يسوع الخلاصي يُعلِن عن بدء تَحَوُّل جِذري في كيفيَّة ارتباط الله بشعبه؛ حيث إنَّ العهد الجديد الذي يُدَشِّنه يسوع يُعتِّق العهد الأقدم، أي العهد الذي قطعه الله في سيناء من خلال موسى (عبرانيِّين ٨: ٦–٧، ١٣). الآن يختبر شعب الله غفران خطاياهم من خلال الإيمان بذبيحة يسوع؛ الآن يختبر شعب الله حضوره المُنعِم من خلال الإيمان بالمسيح ومن خلال سُكنى الروح القدس داخلهم؛ الآن يختبر كل شعب الله الدخول الحميم إلى الله (عبرانيِّين ٤: ١٦؛ ١٠: ١٩–٢٢)، وليس فقط عددٌ قليلٌ من الكهنة.

٣. العبادة الجماعيَّة في العهد الجديد

ماذا يعني كل هذا للعبادة الجماعيَّة في حِقبة العهد الجديد الذي قطعه المسيح؟ أول شيء ينبغي ملاحظته هو أن أحكام العهد القديم الخاصة بالعبادة قد تم تطبيقها على حياة المؤمنين بأسرها في العهد الجديد. يكتب بولس في رومية ١٢: ١: “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ”، فلسنا الآن نُقَدِّم الحيوانات ذبائح بل أنفسنا ذاتها. إنَّ حياة الشخص المسيحي بأسرها هي ذبيحة خدمة لله.

أو فَكِّروا في عبرانيِّين ١٣: ١٥: “فَلْنُقَدِّمْ بِهِ [أي بيسوع] فِي كُلِّ حِينٍ للهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ، أَيْ ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ”، فالتسبيح هو ذبيحتنا، ونُقَدِّمها فِي كُلِّ حِينٍ، وليس فقط لمدة ساعة في صباح الأحد. ولا يتضمَّن ثمر الشفاه المُعْتَرِفَة بِاسْمِ الله أغاني التسبيح فقط، ولكنَّه يتضمَّن أيضًا أكثر من ذلك بكثير: الاعتراف الجريء بالإنجيل في العَلَن، التحدُّث للآخرين بكلمات الحق والمحبة، إخضاع كل كلمة تخرج من شفاهنا تحت سلطان المسيح.

وهذا يعني أنَّ “العبادة” ليست شيئًا نفعله بشكل رئيسي فقط يوم الأحد في الكنيسة، بل ينبغي أن تغمر العبادة حياتنا بالكامل. إنَّ العبادة بالنسبة للمسيحي غير محدودة بأوقات مقدسَّة وأماكن مقدسَّة؛ لأنَّنا بالإيمان متحدون بالمسيح الذي هو هيكل الله، ويسكن فينا الروح القدُّس؛ ممَّا يجعلنا، أفرادًا وجماعةً على حدٍّ سواء، هيكل الله (١ كورنثوس ٣: ١٦–١٧؛ ٦: ١٩؛ راجِعْ أفسس ٢: ٢٢).

ما هي سمات العبادة الجماعيَّة إذًا في العهد الجديد الذي قطعه المسيح؟ قراءة الكتاب المقدُّس ووَعْظه (١ تيموثاوس ٤: ١٣)؛ الترنُّم معًا بمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ (أفسس ٥: ١٨–١٩؛ كولوسي ٣: ١٦)؛ الصلاة (١ تيموثاوس ٢: ١–٢، ٨)؛ ممارسة فرائض المعموديَّة والعشاء الرَّبَّاني (متى ٢٨: ١٩؛ ١ كولوسي ١١: ١٧–٣٤)؛ تحريض بعضنا بعضًا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ (عبرانيِّين ١٠: ٢٤–٢٥).

من أكثر الأشياء المُدهِشة في العبادة الجماعيَّة في العهد الجديد الذي قطعه المسيح هو التركيز المتواصل على بُنيان الجسد كله. يكتب بولس: “لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، مُتَرَنِّمِينَ بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ (بِشُكْرٍ) مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ” (كولوسي ٣: ١٦)، فنحن نُعَلِّم ونُنذِر بعضنا بعضًا بينما نُرَنِّم للرب، أي بينما نُسَبِّح الله نحن نبني بعضنا بعضًا. ويذهب بولس إلى حد القول بأنَّ كُلَّ شَيْءٍ في اجتماع الكنيسة ينبغي أن يتم بهدف بُنيان الجسد في المسيح (1 كورنثوس ١٤: ٢٦).

ليس الأمر الفريد في اجتماع الكنيسة الأسبوعي هو أنَّه الوقت الذي نعبد فيه، وإنَّما الأمر الفريد فيه هو أنَّه الوقت الذي نبني فيه بعضنا بعضًا من خلال عبادة الله معًا.

بفضل العهد الجديد الذي دَشَّنه المسيح تملك العبادة الجماعيَّة في حِقبة هذا العهد نسيجًا مختلفًا تمامًا عن العبادة الجماعيَّة تحت العهد المقطوع قديمًا؛ فبدلًا من حدوث العبادة الجماعيَّة لعدد قليل من المرات سنويًّا أصبحت الآن أسبوعيَّة، وبدلًا من الاجتماع في الهيكل في أورشليم يجتمع المؤمنون في الكنائس المحليَّة أينما يعيشون، وبدلًا من أن يكون حضور الله محصورًا في قدس الأقداس ومحروسًا من قِبَل الكهنة، يسكن الله الآن في كل شعبه بالروح القدس، والمسيح حاضِرٌ مع شعبه حيثما يجتمعون (متى ١٨: ٢٠)، وبدلًا من أداء سلسلةٍ معقَّدة من الذبائح والتقدمات، يجتمع المسيحيُّون لسماع الكلمة (أقنوم الابن، الرب يسوع المسيح) ووعظ الكلمة والصلاة بالكلمة والترنُّم بالكلمة ورؤية الكلمة في الفرائض. ويهدف كل هذا إلى بُنْيَانِ الجسد فِي الْمَحَبَّةِ حتى نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى الكمال في المسيح (أفسس ٤: ١١–١٦).

٤. قراءة الكتاب المقدُّس بأكمله لكي نعلم ماذا ينبغي علينا أن نفعل في العبادة الجماعيَّة

فكيف إذًا ننظر إلى الكتاب المقدُّس ليُعَلِّمنا ماذا نفعل في العبادة الجماعيَّة؟

بادئ ذي بدءٍ، أعتقد أنَّه من المهم التأكيد على أنَّ الكتاب المقدُّس بالحقيقة يُعَلِّمنا ما ينبغي علينا فعله في الاجتماعات الدوريَّة للكنيسة. تَذَكَّروا أنَّه بينما كل الحياة هي عبادة، يَشْغَل اجتماع الكنيسة الأسبوعي مكانًا خاصًا في الحياة المسيحيَّة، فجميع المسيحيِّين مُطالَبون بالاجتماع مع الكنيسة (عبرانيِّين ١٠: ٢٤–٢٥)؛ فحضور الكنيسة بالنسبة للمسيحي ليس أمرًا اختياريًّا، وعمليًّا يعني هذا أنَّ كُلَّ ما تفعله الكنيسة في العبادة يُصبِح ممارسةً إلزاميَّة بالنسبة لأعضائها، ويحث بولس المسيحيِّين على ألَّا يسمحوا لأحدٍ بأن يُقَيِّد ضمائرهم بأيَّة فرائض أو ممارسات عبادة هي من صُنْعِ الإنسان (كولوسي ٢: ١٦–٢٣).

يمكنني أن أقول أنَّ هذه المبادئ الكتابيَّة تُنتِج مُجْتَمِعَة ما قد تَسَمَّى تاريخيًّا بـ”المبدأ الفريضي” للعبادة،[5] الذي يعني أنَّ الكنائس في اجتماعاتها العامة يتحتم عليها أن تلتزم فقط بتلك الممارسات المنصوص عليها إيجابيًّا في الكتاب المقدَّس، سواءٌ عن طريق أمر صريح أو عن طريق نموذج يُشَكِّل معيارًا نقيس عليه، أمَّا أن نفعل أي شيءٍ آخر سيكون بمنزلة المساومة في الحريَّة المسيحيَّة؛ ولذلك ينبغي على الكنائس أن تنظر إلى الكتاب المقدُّس لكيما تخبرنا كيف نعبد معًا، وينبغي عليها أن تفعل فقط ما يخبرنا الكتاب المقدُّس أن نفعله.

ولكنَّ هذا يُثير السؤال: ما هو بالضبط الذي يخبرنا الكتاب المقدُّس أن نفعله؟ وبتعبيرٍ أدق، كيف يمكننا أن نُخبِر أيَّة مادة كتابيَّة حول العبادة تُعَدُّ معيارًا نحتذي به وتُعَدُّ مُلزِمةً؟ تتطلب الإجابة الوافية عن هذا السؤال كتابًا؛ لذا سأُقَدِّم هنا المُجْمَل الأشد إيجازًا.

يتطلب تمييز التعليم الكتابي عن العبادة بعض البراعة؛ حيث إنَّ الكتاب المقدُّس لا يمنحنا في أي مكانٍ على سبيل المثال “شكلًا مُحَدَّدًا لكيفيَّة سير اجتماع الكنيسة” يكون وافيًا ويُشَكِّل معيارًا مُعتَرَفًا به، ولكن هناك بعض الوصايا في العهد الجديد التي تُعَدُّ على نحوٍ شديد الوضوح مُلزِمةً لجميع الكنائس؛ فتوصية كُلٍّ من كنيسة أفسس وكنيسة كولوسي بالتَّرنُّم (أفسس ٥: ١٨–١٩؛ كولوسي ٣: ١٦)، والإشارة إلى كنيسة كورنثوس على أنَّها تُرَنِّم (١ كورنثوس ١٤: ٢٦) يدل على أنَّه من المفترض على جميع الكنائس أن تُرَنِّم، كذلك وصيَّة بولس لتيموثاوس بقراءة الكتاب المقدُّس ووعظه، وذلك في رسالةٍ الغرض منها تعليم تيموثاوس كيف ينبغي أن تَتَصَرَّف الكنيسة (١ تيموثاوس ٣: ١٥؛ ٤: ١٣) يدل على أنَّ قراءة الكتاب المقدُّس ووعظه هما مشيئة الله ليس فقط لتلك الكنيسة الواحدة، بل لكل كنيسة.

من ناحيةٍ أخرى يبدو أن بعض الوصايا، مثل: “سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ” (رومية ١٦: ١٦) تُعَبِّر عن مبدأ عام وشامل (رَحِّبوا بعضكم ببعض في محبةٍ مسيحيَّة) في شكلٍ قد لا يكون عام وشامل فيما يتعلق بالثقافة.

علاوةً على ذلك، قد تمتلك بعض الوصايا الخاصة بسياقٍ مُعَيَّن سُلطةً أوسع، مثل إخبار بولس أهل كورنثوس أن يضعوا جانبًا في أول الأسبوع ما تيسَّر من المال، وكان ذلك من أجل تقدمةٍ محددة ذاهبة إلى القديسين في أورشليم، ولكن يوصي الرسول بولس أيضًا جميع الكنائس بدعم مُعَلِّميها مادِّيًّا (غلاطية ٦: ٦)؛ وعليه يكون للعطاء على الأرجح مكانٌ في العبادة الجماعيَّة.

إلَّا أنَّنا حتى الآن قد تعاملنا فقط مع العهد الجديد، ماذا عن العهد القديم؟ ففي النهاية يحمل العهد القديم قدرًا وافِرًا من الوصايا حول العبادة:

سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ.
سَبِّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ. سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ.
سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ. (مزمور ١٥٠: ٣–٥)

هل هذا يعني أنَّه لكي تكون اجتماعات كنائسنا كتابيَّة فهي تحتاج إلى أن تتضمن أصوارًا (أبواقًا) وربابًا وأعوادًا ودفوفًا ورقصًا وأوتارًا ومزامير وصنوجًا؟ سأقول لا.

تَذَكَّروا أنَّ المزامير هي تعبيرات عبادة تحت العهد الموسوي، والذي يُشير إليه بعض كُتَّاب العهد الجديد على أنَّه “العَهْد القَدِيم” (أي العهد الذي صار الآن قديمًا – المترجم) [التَّرْجَمَةُ العَرَبِيَّةُ المُبَسَّطَةُ] (عبرانيِّين ٨: ٦)، أمَّا الآن وقد جاء العهد الجديد الموعود به في إرميا ٣١، صار العهد القديم (العهد الموسوي) عتيقًا. لسنا بعد تحت ناموس موسى (رومية ٧: ١–٦؛ غلاطية ٣: ٢٣–٢٦)، ومن ثَمَّ فإنَّ أشكال العبادة المرتبطة بالعصر الموسوي ليست مُلزِمةً لنا هي الأخرى. كان الكهنة يخدمون خدمة الهيكل، واخْتَصَّتْ خدمة البعض منهم في الموسيقى الليتورچيَّة (١ أخبار الأيام ٩: ٣٣)، فهؤلاء في الواقع هُم الذين نراهم يعزفون على ذات الآلات المذكورة في مزمور ١٥٠ (٢ أخبار الأيام ٥: ١٢، ١٣؛ ٩: ١١)؛ لذلك فإنَّ مزمور ١٥٠ لا يُقَدِّم نموذجًا للعبادة المسيحيَّة، وإنَّما هو يستحضر شكلًا محدَّدًا لعبادة العهد القديم (أي العهد الموسوي الذي صار الآن قديمًا) المرتبطة بالهيكل والكهنوت اللاوي.

لا يحسم ذلك في حد ذاته مسألة نوع الآلات الذي قد يكون لائقًا لمصاحبة ترنيم الكنيسة الجماعي، ولكنَّه بالفعل يعني أنَّ لجوءًا بسيطًا للمُتَّبَع في العهد القديم يُمَثِّل خروجًا عن النظام بنفس قدر أنَّ لجوءًا للمُتَّبَع في العهد القديم لا يمكن أن يُضفي الشرعيَّة على الذبيحة الحيوانيَّة الآن، وهذه هي النقطة التي تعجز فيها العديد من التقاليد المسيحيَّة عن الوصول إلى لاهوت كتابي خاص بالعبادة، ويرجع هذا العجز إلى اللجوء على نحوٍ انتقائيٍّ للمُتَّبَع في العهد القديم كما لو أنَّ سماتٍ معينة من الكهنوت اللاوي ومن العبادة في الهيكل مستمرةٌ معنا في عصر العهد الجديد الذي قطعه المسيح.

من المؤكَّد أنَّ الكثير في العهد القديم يؤثِّر في سلوكنا أثناء العبادة؛ فتُعَلِّمنا المزامير أن نعبد بمهابةٍ وخَشْيَةٍ، بفرحٍ وعَجَبٍ، بامتنانٍ وسعادةٍ، ولكن لا يُحَدِّد العهد القديم عناصر عبادة كنيسة العهد الجديد الذي قطعه المسيح ولا يُحَدِّد أشكالها.

وبهذا المعنى يُقَدِّم العهد الجديد دستورًا جديدًا لشعب الله تحت العهد الجديد الذي قطعه المسيح، تمامًا كما كان الكثير من العهد القديم بمنزلة الدستور لشعب الله تحت العهد المقطوع قديمًا. لدى الله خطةٌ واحدةٌ للخلاص وشعبٌ واحدٌ يُخَلِّصه، ولكن طريقة ارتباط شعب الله به تَغَيَّرت جذريًّا بعد مجيء المسيح وتأسيسه للعهد الجديد.

ولهذا نحن نحتاج إلى توظيف جميع أدوات علم اللاهوت الكتابي- الجمع بين العهود، تَتَبُّع الروابط بين الـ “Type” أو “المثال” والـ “Antitype” أو “الاكتمال”، مراقبة الوعد والإتمام، تحديد المستمر وغير المستمر- من أجل الوصول إلى لاهوتٍ خاص بالعبادة الجماعيَّة. بصفتنا شعب المسيح للعهد الجديد، الشعب الذي يسكنه الروح القدس الموعود به، نحن نعبد (نسجد) بالروح (الروح القدس) والحق وفقًا للشروط التي حدَّدها الله نفسه في الكتاب المقدُّس.


[1] من أجل لاهوت كتابي خاص بالعبادة قد أثَّر بعمق على اتجاهي في هذا المقال، اُنْظُرْ:

David Peterson, Engaging with God: A Biblical Theology of Worship (Downers Grove: InterVarsity Press, 1992).

[2] من أجل مدخل أساسي لقصة الكتاب المقدُّس يستخدم فكرة جَمْع الله شعبَه كعدسةٍ رئيسيَّة، اُنْظُرْ:

Christopher Ash, Remaking a Broken World: A Fresh Look at the Bible Storyline (Milton Keynes, UK: Authentic, 2010).

[3] رمزيَّة المِثال (Typology).

[4] للمزيد حول مسار الهيكل عَبْر كل قانون الكتاب المقدُّس، اُنْظُرْ:

K. Beale, The Temple and the Church’s Mission: A Biblical Theology of the Dwelling Place of God, New Studies in Biblical Theology 17 (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 2004).

[5] من أجل حُجَجٍ موجزة لدعم المبدأ الفريضيّ، اُنْظُرْ:

Jonathan Leeman, “Regulative Like Jazz,”

والفصول الثلاثة الأولى من:

Give Praise to God: A Vision for Reforming Worship, ed. Philip Graham Ryken, Derek W. H. Thomas, and J. Ligon Duncan, III (Phillipsburg, NJ: Presbyterian & Reformed, 2003).

المزيد المتعلق بـ : مقالات